الوضوح

شاركها

محمد أمين سامي: التخطيط الاستراتيجي بين التنظير والممارسة

التخطيط الاستراتيجي بين التنظير والممارسة

 

 

بقلم : محمد أمين سامي

خبير الاستراتيجية وقيادة التغيير.

 

كثيرا نسمع عن الاستراتيجيات الذكية، الاستراتيجيات الاستثمارية، الابتكارية، التعليمية،… إلى غير ذلك من هذه الأنواع لكن القليل والقليل جدا من هو واع بمفهوم الاستراتيجية وتاريخها وتطور نشأتها ومدارسها الفكرية التي نشأت فيها وأدواتها ومنهجياتها العلمية التي تأسست عليها، فمصطلح الاستراتيجية مصطلح ظهر في الميدان العسكري بامتياز، فهو مصطلح عسكري فالهدف الأساسي من الاستراتيحية في الميدان العسكري هو دحر العدو وكسب الحرب ولكي تتم هذه العملية لابد من تحليل الظروف المحيطة للميدان الحربي، وتحليل موارد العدو واستعدادات افراده وجاهزيتهم وتحليل أدوات عملهم وخطة اشتغالهم ودراسة نقط قوتهم ووضعفهم و… فالاستراتيجية في الميدان الحربي مرتبطة بشكل كبير بالتفكير الاستراتيجي وهذا الأخير يتكون من التفكير الناقد والتفكير التشغيلي.

إن التفكير الاستراتيجي هو تفكير عميق جدا وتفكير خارج الصندوق، تفكير يرتكز على رصد العلامات الضعيفة والمتقدمة وبذور التغيير تفكير ينهل بشكل كبير من مدرسة الإشارات école des signes، وهي أحد أهم المدارس الأساسية للنجاح في مجال التخطيط الاستراتيجي والاستراتيجية بشكل عام. إن الاستراتيجية في نهاية المطاف قرار يتم اتخاده من طرف المسؤول كما انها حسب تعريف الدكتور إدريس أوهلال الخبير الدولي في مجال الاستراتيجية في كتابه فقه الاستراتيجية هي : فعل جماعي في المستقبل، كيف ذلك؟

دعونا أولا نشرح هذا التعريف الذي يظهر موجزا ولكنه عميق جدا يلخص مفهوم الاستراتيجية.

١. الاستراتيجية فعل : عبارة عن أفعال واضحة وصريحة وقابلة للتحقق والقياس ومحددة في الزمن ضمن خطة صريحة هدفها هو الوصول للمستقبل المرغوب.

٢. الاستراتيجية عمل جماعي : لا يمكن للاستراتيجية النجاح الا بتظافر جميع الجهود المبذولة وتنسيق الموارد مع بعض. وفي هذا الصدد فنجاح الاستراتيجية مرتبط بشكل كبير بسلم نضج هذه الأخيرة فالإستراتيجية الناجحة هي الإستراتيجية المكتوبة والمفهومة والمتقاسمة مع الجميع بدون استثناء والمجسدة على أرض الواقع.

٣. الاستراتيجية عمل في المستقبل، فهذه الأخيرة لا تتنبأ بالمستقبل كيف سيكون لأن المستقبل مستقبلات فهناك المستقبل المحتمل والمستقبل المفضل و المستقبل الرسمي والمستقبل الموعود و المستقبل المرغوب… فهذه المستقبلات مختلفة تماما عن بعضها البعض فالإستراتيجية تحاول رصد العلامات الضعيفة والمتقدمة وبذور التغيير والاستعداد للمستقبل المراد الولوج إليه فهي تقوم بالإعداد للمستقبل من أجل الاستفادة من الفرص الجديدة واستغلالها بشكل جيد ومحاولة تفادي المخاطر والتهديدات والأزمات المحتملة التي يمكن إن يجود بها المستقبل الجديد.

فنجاح الاستراتيجية رهين أيضا بالذكاء الاستراتيجي والزمن الاستراتيجي الذي يتم فيه إتخاذ القرار المناسب ولعل من أبرز المصطلحات المرتبطة بالاستراتيجية هو مصطلح الاستشراف الاستراتيجي هذا الأخير بمثابة جهاز إنذار واستشعار مبكر يرصد حركية النسق المجتمعي بمختلف أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والأسرية والاقتصادية وغيرها، ويرصد تأثير الفاعلين واستراتيجياتهم وشروط لعبتهم ويتم تنزيل ذلك في إطار الخطة الاستراتيجية، ولنفهم الفرق بين الاستشراف الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي نقارن بين خيول السباق وخيول العربات وقد تطرقنا لهذا المثال عددا من المرات خاصة أن خيول السباق لا تتوفر على غطاء للراس والهدف من ذلك هو جعل الرؤية واضحة واستغلال الفرص المتاحة من أجل تحقيق الفوز وكسب رهان السباق، أما خيول العربات فتوفرها على غطاء الرأس الهدف منه هو التركيز على الهدف وعدم تشتيت انتباهها كي تحقق الهدف المنشود كما هو مرسوم في الخطة. فهذا هو الفرق بكل بساطة بين الاستشراف الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي. فكلاهما عنصران مكملين لبعضها البعض.

فحسب الدراسات الاستراتيجية يتبين أن عدد المؤسسات التي تنجح من أول مرة في تحقيق استراتيجيها دون مشاكل لا تتجاوز 7% من المؤسسات والشركات العالمية في حين أن 93% من المؤسسات والشركات تفشل ي تحقيق استراتيجيتها أما لسبب غياب الرؤية الواضحة، أو لضعف التنظيم، أو لضعف مواكبة التحول السريع والمتسارع لمتطلبات النموذج الاقتصادي العالمي الجديد،  أو…. والامثلة كثيرة لعدم نجاح الاستراتيجية على أرض الواقع.

ان التنظير للاستراتيجية سهل جدا ولكن عند ممارسة عملية التخطيط الاستراتيجي على أرض الواقع هنا تكمن الاشكاليات خاصة مع جود رهانات أصحاب المصالح الذين يعرقلون نجاح تنزيل الاستراتيجية اذا لم تأخذ بعين الاعتبار رهاناتهم ومصالحهم الشخصية، كما أن ضعف التنسيق والربط بين الادارات والاجهزة الحكومية والتباين في قدرات الأفراد داخل المؤسسات والسرعات المختلفة التي تسير بها القطاعات تسهم بدون شك في عدم أو ضعف تنزيل الاستراتيجية بالشكل المطلوب كما أن تعقد التشريعات والمساطر الإدارية والقانونية والمالية في مختلف المجالات يزيد الطين بلة.

ان الواقع كيفما كان هذا الأخير فهو معقد وليس بسيط أو مركب وبالتالي فنجاح الاستراتيجية على أرض الواقع رهين بتحليل تفاعلات هذا الواقع المعقد ومراقبة حركيته، وتفاعلاته مع باقي العناصر الأخرى، ولكن يبقى أهم عنصر في نجاح الإستراتيجية رؤية القيادة الذكية لركوب موجات التغيير وتحقيق التغيير المنشود(المستقبل المرغوب الذي نريد الولوج إليه). فرؤية القائد مهمة جدا في توحيد الجهود بين الأفراد والرفع من جاهزيتهم واستعداداتهم لمواجهة التقلبات والأزمات المستقبلية وهذا ما نفتقده بصراحة في مؤسساتنا ومنظماتنا سواء الحكومية أو الخاصة أو الخيرية، كما أن السرعات المتفاوتة بين القطاعات والبنية التحتية التنظيمية المختلفة بين القطاعات تسهم في فشل الاستراتيجية وتحقيق أهدافها المتوخاة.