النكبة، مفاتيح فلسطين التي لا تصدأ أبدًا
د.صلاح جمال/فلسطين
كنت أرى والدي في كثير من الأحيان يأخذ مفتاحًا ضخمًا من صندوق خشبي، ويصقله ببضع قطرات من الزيت، ويعيده إلى مكانه وهو يتمتم بإهانات شديدة ضد بريطانيا العظمى والصهاينة. أما والدتي فكانت من المطبخ الصغير تُنبهه: لا تنسى أيضًا الملوك والرؤساء العرب.
من الواضح أن الانتصارات والهزائم في الحروب هي من شؤون الرجال: هناك المبالغة أمام النصر والسكوت والخجل من الهزيمة. كان والدي من المجموعة الثانية. لم يخبرني قط بقصة هذا المفتاح المدلل. بينما أوضحت لي والدتي بأن ذلك المفتاح كان مفتاح منزلنا في بيسان في فلسطين، حيث أغلقنا الباب وهربنا نتيجة مذابح الطنطورة ودير ياسين وغيرهما التي ارتكبها الصهاينة. لقد قام والدك العنيد، مثل آلاف الفلسطينيين، بحراسته والاعتناء به ليوم العودة التي طال انتظارها، مع العلم أن المنزل إما سُوِّيَ بالأرض أو تم استيطانه مِن قِبَل مستعمر يهودي بولندي أو روسي”.
المفتاح يرمز إلى النكبة (النكبة الفلسطينية في أيار / مايو 1948) التي سحق فيها المستعمرون اليهود الأوروبيون، بدعم من القوى الغربية، المقاومة البدائية والبطولية للسكان الفلسطينيين والعرب الذين ثاروا ضد خطة الأمم المتحدة الظالمة (التي تُسيطر عليها القوى الاستعمارية) عام 1947. تمثلت هذه الخطة في تقسيم فلسطين إلى قسمين (56٪ من الأراضي لـ 300.000 يهودي وصلوا حديثًا و 44٪ لمليون فلسطيني، أهل البلد). أعلن اليهود من جانب واحد تأسيس دولة إسرائيل التي اعترفت بها القوى العظمى على الفور، وخاصة القوى الأوروبية، المستفيدة الحقيقية. بذلك حققوا هدفاً مزدوجاً وغير أخلاقي: من جانب التخلص من يهود أوروبا، ومن جانب آخر إنشاء دولة شرق أوسطية تعمل كحاملة طائرات برية لحماية مصالحهم، بالضبط كما اعترف بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بنفسه. وهكذا، أصبحت الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني لاجئين بين عشية وضحاها.
لقد أصدرت الأمم المتحدة، المهيمن عليها وغير الفعالة، أكثر من خمسين قرارًا منذ عام 1948. جميعها تدعوا إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويضهم، ولكن إسرائيل رفضت تنفيذ أي منها. وبدلاً من إجبار إسرائيل على الالتزام بهذه القرارات بما يتماشى مع القانون الدولي لإنهاء التوسع الصهيوني في فلسطين، حولت الأمم المتحدة المشكلة بشكل خبيث القضية من مشكلة سياسية – شعب طُرد قسراً من أرضه – إلى مشكلة إنسانية، “شعب يبحث عن مأوى وطعام”.
دافعت القوى الاستعمارية وهوليوود عن الرواية الصهيونية المخادعة وروجت لها: لقد وصفوا فلسطين، المأهولة بالسكان والتي من الواضح أنها زراعية، بأنها “أرض قاحلة وخاوية” وهم حولوها إلى بستان. أطلقوا على غزوهم لفلسطين “الاستقلال”. قدموا إسرائيل كدولة “اشتراكية وعلمانية”، على الرغم من شعارها التأسيسي الغامض والذي عفا عليه الزمن “العودة إلى الأرض التي وعدهم بها الله”. أطلقوا على التطهير العرقي المرتكب ضد غير اليهود “الديمقراطية اليهودية”. ومن أجل عدم الذهاب بعيداً، فإن إسرائيل، القوة المحتلة والنووية ، تسمي عربدتها على الحدود وفي الأراضي الفلسطينية الأخرى المحتلة عام 1967 “الحق في الدفاع عن نفسها”.
على الرغم من مرور 75 عامًا، واختلال التوازن الهائل للقوى، وصمت وتواطؤ المجتمع الدولي، يواصل الفلسطينيون (6 ملايين لاجئ مشردين و 6 ملايين آخرين يقبعون تحت الاحتلال العسكري) جيلًا بعد جيل، تلميع المفاتيح، بل وحتى رسمها أيضاً، كما فعلت حفيدتي البالغة من العمر 6 سنوات، حيث قاما بإهدائي رسم مفتاح مختوم بكلمة النكبة.
صلاح جمال، طبيب ومؤرخ. كتابه الأخير: “النكبة، 48 قصة”.