مأزق إسرائيل مع صعود موجة المقاومة في الضفة
عبد الإله شفيشو / المغرب
يمكن تفسير الحالة الثورية المتجددة في الضفة الغربية وتبدل المزاج العام فيها كان نتيجةٍ لتظافر أمرين أساسيين:
الأول: كان التراجع الملموس لفاعلية أجهزة التنسيق الأمني في قمع الحالة المقاوِمة المتصاعدة في الضفَّة الغربية ويعزو ذلك التراجع إلى تبدل المزاج العام عند أكثرية الشريحة الفلسطينية التي اقتنعت يوما ما بجدوى مسار أوسلو، فعقب وصول هذا المسار إلى طريقٍ مسدودٍ وبعد اختبار عواقبه الكارثية على مدى العقود الثلاثة الماضية على عموم المشروع الوطني الفلسطيني تبددت أوهام السلام عند أغلبية الفلسطينيين ممن خدعوا يوما به بما في ذلك أعداد لا يستهان بها من أفراد السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية نفسها.
الثاني: الذي ساهم أساسا في تبدل المزاج الشعبي الفلسطيني في الضفة الغربية فقد كان التقاط عموم الشعب الفلسطيني بحسِّه الفطري اللحظة التاريخية وحقيقة اختلال موازين القوى التي حكمت الصراع العربي –الإسرائيلي لعقود خلت إذ إن الحروب التي خاضها المحتل ضد حركات المقاومة الفلسطينية وكذا الإقليمية منذ 2006 قد أظهرت تعاظم قدرات حركات المقاومة عموما وتراجع قدرة الكيان المؤقت، فإذا ما كانت موازين القوى لم تختل بالفعل لغير مصلحته فما كان لهذا الكيان العدواني ليسمح مثلا بتعاظم قوة المقاومة في جنوب لبنان لتصل إلى ما وصلت إليه من اقتدار من دون شن حرب حاسمة للقضاء عليها كما كان سابقا يواجه حركات التحرر العربي والدول العربية المناهضة له.
من هنا برز الحديث عن أن الضفة الغربية قد مرت بسنوات موت سريري من ناحية الفعل المقاوم وعن أن الاحتلال في الضفة الغربية قد تحول إلى احتلال خمس نجوم إذ لم يعد يتحمل أي أعباء من جراء استمرار احتلاله مع وجود السلطة الفلسطينية سواء أكان ذلك على صعيد التكلفة البشرية للاحتلال أو على صعيد تكلفته المادية حتى أصابت بعض تلك الهجمات المسلَّحة أراضي 1948 ناهيك بهبّات الأقصى المتكررة ، إلا أن الضفة الغربية قد بدأت تستعيد حيويتها منذ حين وكانت البداية مع عمليات الطعن والدهس الفردية ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه ومن ثم تطورت أعمال المقاومة لتضم هجماتٍ بالأسلحة النارية، فما ميز عام الضفة الغربية الراهن فقد كان ولادة حالة التشكيلات المقاوِمة شبه المنظَّمة فجاءت البداية مع مجموعة (كتيبة جنين) التي سرعان ما انتقلت عدواها إلى البلدة القديمة في نابلس وذلك مع ولادة مجموعة (كتيبة نابلس) لتتحول تلك الأخيرة إلى مجموعة (عرين الأسود) عقب انضمام مجموعات مقاوِمة أخرى إليها لتغدو هذه المجموعة بعد ذلك الحالة المقاوِمة الأبرز في الضفة الغربية.
لعل معركة (سيف القدس) 2021 كان لها الأثر الأكبر في تبدل المزاج العام الفلسطيني فالأداء المميز لفصائل المقاومة الفلسطينية في تلك المعركة قد أعطى لخيار المقاومة دفعة لا يستهان بها وظهر ذلك جليا في تفاعل عموم الشعب الفلسطيني معها في الداخل وفي أراضي 1948 وفي الشتات، سنجد أن ما أفضى إلى مسار تجدد الحالة الثورية في الضفة الغربية كان تضافر مجموعة ظروف موضوعية في الداخل الفلسطيني وأخرى في الإقليم حتى إن “حزب الله” كان قد تمكن مؤخرا من إرغام كيان الاحتلال على الرضوخ لمطالب الدولة اللبنانية في غاز شرق المتوسط بمجرد التلويح بإمكان فتح جبهة جنوب لبنان، والمرجح أن يستمر هذا المسار ويتطور إذ إن إعادة عقارب الساعة في الضفة الغربية إلى الوراء يلزمه إبطال مفاعيل تلك الظروف الموضوعية التي أفضت إليه في المقام الأول وهذا ما لا مؤشرات عليه وذلك ضمن المدى المنظور للأوضاع الفلسطينية والإقليمية وكذلك تلك الدولية المستجدة.
لا نبالغ إذا قلنا إن المقاومة في ساحة الضفة الغربية قد عانت الأمرَين منذ تولي “محمود عباس” رئاسة السلطة الفلسطينية إذ إن التنسيق الأمني كان إلى حد بعيد قد حرم المقاومة البيئة الحاضنة التي طالما تمتعت بها في تلك الساحة، ولعل من أبرز الأسباب التي مكنت الأجهزة الأمنية للسلطة من خلخلة البيئة الحاضنة للمقاومة في الضفة الغربية بتلك الفاعلية كان الوهم الذي خلقه مسار أوسلو لدى شريحة واسعة في الشارع الفلسطيني ولا سيما بين أبناء حركة (فتح) وعناصر أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية، إذ باتت تلك الشريحة مقتنعة بإمكان استرجاع شيء من الحقوق الفلسطينية المسلوبة عن طريق المفاوضات فصارت عناصر الأمن الفلسطيني تقمع المقاومين من أبناء جلدتهم وتسهر على حماية أمن المستوطنات وقطعان المستوطنين معتقدة أنها تخدم بذلك المشروع الوطني الفلسطيني، ولعل مجموعة (عرين الأسود) كانت الأقدر من بين المجموعات الأخرى على إرباك عمَل أجهزة التنسيق الأمني إذ إن أكثرية عناصرها مع كونهم ينحدرون من خلفيات فصائلية فلسطينية متعدِّدة هم من أبناء حركة (فتح)لذلك قد نجحت المجموعة في استثارة الروح الوطنية لدى قطاعات واسعة في المجتمع.
في كل الأحوال، تظل هذه المجموعات المقاوِمة في الضفة الغربية على تعددها تمثل حالة مقاوِمة وذلك ضمن مسار مستمر لكن تلزمه خطوات إضافية كي تكتمل فاعليته ليصير مؤثرا إلى الدرجة التي يمكنه معها من تحقيق إنجازات ملموسة على طريق تحرير كامل للأرض الفلسطينية من نهرها إلى بحرها، ويكفي في هذه المرحلة أن تبقي هذه المجموعات المقاوِمة على حالة الاشتباك مع الاحتلال بحيث تكون ملهمة للجيل الصاعد على اختلاف انتماءاته الفصائلية المتحمس إلى مقارعة الاحتلال، وأن تكون هذه المجموعات المقاوِمة نواة تكبر وتقوى مع مرور الزمن لتصل إلى مدنٍ أخرى في الضفة الغربية، حينها تغدو الأرض ممهدة أمام قوى المقاومة في فلسطين لتدعم تشكيلات المقاومة الناشئة في ساحة الضفّة الغربية بما يقتضيه الأمر لتحقيق نقلة أخرى على مسار إزالة الكيان المؤقت، ولا يعد فرض الانسحاب على الاحتلال من الضفة الغربية وتفكيك المستوطنات من دون قيد أو شرط بالأمر غير الواقعي في هذه الحقبة وذلك ضمن موازين القوى المستجدة فإجبار الاحتلال على الانسحاب سابقا تحت ضربات المقاومة من جنوب لبنان وبعدها من قطاع غزة بات تحقيقه في الضفة الغربية في متناول اليد.