في قطاع غزة المحاصر، لم يعد الجوع مجرد معاناة جسدية، بل تحوّل إلى نزيف نفسي يعصف بعقول الناس كما يعصف بأجسادهم. فمن يملك المال لا يجد ما يشتري، ومن يجد الطعام لا يستطيع إليه سبيلا، ومن يأكل لا يتجاوز وجبة يتيمة في اليوم، هذا إن وجدها.
وسط هذا الجحيم، يعيش حسن، الموظف في وكالة الأونروا، واقعًا يتقاسمه مع مليوني غزّي. يتقاضى راتبًا يقارب 2000 دولار شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي لشراء الخبز لأسبوعين فقط. فمنذ أن شدّدت إسرائيل حصارها على غزة في مارس الماضي، صار الطعام عملة نادرة، وصار حسن يقضي أيامًا كاملة يبحث عن طحين أو معكرونة، بلا طائل، بينما يشاهد الناس يُغمى عليهم في الشوارع من شدّة الجوع.
ثلاث علب فاصولياء كانت كنزًا عثر عليه بعد أيام من البحث، فجلس طويلًا يفكر في طريقة توزيعها بين أفراد أسرته الخمسة، قبل أن يلجأ إلى “تشات جي بي تي” باحثًا عن خطة لتقسيم السعرات الحرارية بعدل ودقة، في مشهد يلخّص مدى القسوة التي يعيشها الناس.
خسر حسن 38 كيلوغرامًا من وزنه منذ بداية الحصار، ولم يعد تركيزه يسمح له بكتابة بريد إلكتروني دون جهد مرهق. والدته، التي أجلت زوجته وأبناءه لحمايتهم، طلبت منه أن يبيع قطعة من أساورها التي احتفظت بها منذ مهرها، فقط لكي تشعر بأنها تقدم شيئًا لأجل الأسرة، لا أن تكون عبئًا عليهم.
وفي الأسواق، تباع الخضروات بأسعار خيالية: الطماطم بـ30 دولارًا، الخيار بـ26، وكيس البصل بـ47 دولارًا. أما السكر والقهوة فتباع بالغرامات، وتوزن بموازين المجوهرات. ولم يعد أحد يشتري بالكيلو، بل بالغرام، بعد أن أصبحت الحياة كلها تُقاس بالغرام.
وسط هذا الوضع الكارثي، يؤكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن معظم سكان غزة يعيشون على وجبة واحدة يوميًا. أما برنامج الأغذية العالمي فقدّر أن نحو نصف مليون شخص يواجهون جوعًا حادًا، فيما توفي أكثر من 100 شخص، معظمهم أطفال، بسبب سوء التغذية.
الجوع في غزة لم يعد حالة إنسانية، بل مجزرة بطيئة، يتفرج عليها العالم بصمت مخزٍ، فيما يقاتل الغزّيون يوميًا من أجل فتات حياة، أو مجرد وجبة تسند عظامهم المنهكة.