سلوك أُطرنا تجاه القضية الفلسطينية
* بقلم : الشهيد عمر بنجلون * ٢/٣
– الجزء الثاني :
هذه الوثيقة التاريخية من تقديم الفقيد احمد بنجلون في ركن “على الهامش” بتوقيع “حمدون القراص” نشرت على اعمدة جريدة المسار عدد 52 الصادر بتاريخ 1986/12/17، حيث تمت اعادة ترجمة النص الاصلي لمقال الشهيد عمر الذي كتب بالفرنسية، “لانه كان موجها بصفة خاصة الى الاطر المفرنسين… “وارتاينا ان نعيد ترجمة المقال للمزيد من الدقة والامانة والاخلاص للنص”، كما يقول الفقيد احمد، كما وضع له عدة هوامش للتذكير بالسياق التاريخي الذي كتب فيه هذا الموضوع. ونظرا لراهنية هذه المقالة واهمتها التاريخية، واستمرار نفس السلوك اليوم في الاوساط الديمقراطية واليسارية في ظل التطورات التي تعرفها القضية الفلسطينية وتزايد وثيرة التطبيع مع العدو الصهيوني نعيد نشر هذه الوثيقة عبر ثلاثة اجزاء .
* اعداد ونشر : يوسف بوستة
اا – اللامبالاة المستخفة ما قبل 1967 نتيجة لعمل الصهيونية المباشر منذ عشرين سنة، مقرونة بعدم ادراك ظواهر الشرق الأوسط الداخلية.
لم تكتف الصهيونية بالاستفادة من الوجود الاستعماري الجديد ومن نتائجه المباشرة على فكر وسلوك لطرنا، بل انها قامت ولا زالت تقوم بعملية تسميم مباشرة اكثر ، وعرفت كيف تستغل الظروف الخاصة بشمال افريقيا لتغذية اللامبالاة بجميع اشكالها، ازاء الشعب الفلسطيني، وكيف تغذي الخلط والالتباس بعد 1967. ولقد ساعدها عاملان أساسيان في عمليتها المباشرة هذه :
– من جهة لكون تلك العملية كانت تتم عن طريق الأوساط الفرنسية المسماة باليسار التي كانت تؤيد الحركة الوطنية من اجل الاستقلال.
– ومن جهة أخرى انعزال شمال افريقيا التي ظلت على هامش التحول الايديولوجي والسياسي الذي فجره انشاء دولة اسرائيل.
وردود الفعل التي خلفتها صيحة أحمد بن بلا (نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب)، تعبر الى أي مدى استطاع هذان العاملان تحذير أطرنا لمدة عشرين سنة وتغذية أحتقارنا لأنفسنا.
أ – عمل الصهيونية المباشر بواسطة اليسار الفرنسي :
لنقتصر على عرض تطور أساليب التضليل منذ انشاء اسرائيل الى حرب 1967، فالمرحلة الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، هي التي سمحت بتقديم اسرائيل كعنصر تقدم بالمقارنة مع الامارات والأنظمة الإقطاعية والقروسطية، والبلدان الاشتراكية نفسها تظاهرت بالاقتناع بهذا المنظور لاعتبارات استراتيجية ودبلوماسية جد معروفة، ولم يكن هناك ما يمنع الأدبيات والصحافة المسماة باليسارية من أن تتغني بفضائل «الاشتراكية المتميزة، والصافية المتمثلة في المستوطنات (كييوتزیم)، وطلاب شمال افريقيا كانوا ينخدعون لذلك، لأن الفرصة لم تتح لهم قط للاطلاع على اصول نشأة اسرائيل ومستوطناتها التي لا تمثل «اشتراکیتها» سوی تنظيم القاعدة المادية التي تتطلبها الوظيفة الموكولة للمستوطنات منذ اقامتها كقاعدة، لزرع الصهيونية بالقوة والتي لا تمت أساليب تنظيمها الى «الاشتراكية» بأية صلة، اذ انها اساليب انتاج واستهلاك خاضعة للمتطلبات العسكرية، وكان لا بد لتلك القواعد آن تضمن استمراريتها في انتظار تكاثرها وفي انتظار فرصة تأسيس دولة اسرائيل، وبالتالي تطبيق الأساليب التنظيمية الخاصة بالثكنات العسكرية، وذلك في بلاد على طريق الخضوع للاحتلال الاستعماري، وبمجرد انجاز هذه العملية واحتلال فلسطين كان من الضروري، اولا طمس مبدأ الاستعمار نفسه. فتم صنع تبرير “الاشتراكية المتميزة” المستمدة من مبادىء داوورد وعدالة سليمان، الشيء الذي سمح في نفس الوقت باستمرار وتغذية أسطورة التفاني وروح الرواد الدي المستوطنين الصهاينة).
ولقد كشف تأميم قناة سويس وعمل اولئك الرواد لصالح الاستعمار الفرنسي – الإنجليزي المنهار في اعتداء 1956 ضد الجمهورية العربية المتحدة، عن طبيعة تلك الاشتراكية المزعومة ووظيفتها الحقيقية. فكان لابد من تغيير الشعار وفي نفس الوقت تحويل الانتباه عن الهدف الحقيقي للعملية (العدوانية) مي عملية كانت تستهدف القضاء على النظام الوطني الأوحد الذي تمكن من تسمية الحكم القروسطي للاقطاع وافتتاح سياسة تقدم. وهنا بدأت المرحلة الثانية، وهي مرحلة قدرة اليهود على تحويل الصحراء الى جنة بالمقارنة مع العرب الجبناء والعاجزين، وتزامنت تلك المرحلة مع الحملة حول الأقليات اليهودية في البلدان العربية.
وقد وضع دانييل مايير (14) رئيس الرابطة الدولية لحقوق الانسان على المهدي بن بركة حينما عرض عليه هذا الأخير مشروع تأسيس فرع لرابطة حقوق الإنسان بالمغرب، شرطا مسبقا وهو : أن يندد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (15) اولا “بالحد من حق اليهود المغاربة في مغادرة البلاد، وان يطالب بأن تسلم لهم جوازات سفر بدون تمييز ولا أية إشارة ذات طابع ديني”
ويجب القول ان اغلب المثقفين اليهود المغاربة الذين كانوا يدعون مناهضة الصهيونية كانوا يقومون بحملة مستمرة لتسهيل الهجرة المكثفة لليهود وذلك باسم « المبادىء »، إلى أن تم خنق الديمقراطية ببلادنا خنقا تاما وأعيد النظر في كل جوانب سياسة التحرر، الشيء الذي مكن من تصدير اليهود المغاربة تصديرا ديمقراطيا ومكثفا نحو اسرائيل (المراهقون أولا، ثم الشبان وبعدهم الاباء وذلك انطلاقا من مراكز للتجميع)، اما المسؤولون في تونس فلم يكونوا في حاجة إلى تدخلات المؤتمر اليهودي العالمي والمساومات الأمريكية للسماح بهذا التصدير وتشجيعه وذلك بدون شك لازعاج عبد الناصر ! ).
أما المرحلة الثالثة لتكييف الدعاية الصهيونية الموجهة الى بلداننا، فهي المرحلة التي عدد فيها «المعتدلون» التصريحات «الواقعية» التي توحي بالاعتراف بالواقع الاسرائيلي، بعدما ساعدوا هم أنفسهم على تقوية هذا الواقع، بسلبيتهم المتواطؤة او بسياستهم النشيطة الموالية للامبريالية. وخلال هذه الفترة لم يعد الشعار هو اشتراكية المستوطنات او عبقرية اليهود التي تحول الصحراء الى جنة، بل نحيب مزدوج يمكن تلخيصه كالتالي. نحيب على الدول العربية التي تنهك نفسها في النفقات العسكرية بدل مواجهة مشاكل «التخلف»، نحيب على اسرائيل، تلك الدولة الصغيرة لرواد شجعان، يحيط بها اعداء تسلحهم موسكو، وذلك لان منذ عدوان 1956، بدأت الأنظمة الاقطاعية تسقط الواحد تلو الآخر .
فالامبريالية لم تعد تملي على كل حكومات المنطقة سیاستها، والقادة الصهاينة لم يتمكنوا بسهولة، وبدون حسيب أو رقيب من تحويل مجرى مياه نهر الأردن، وحملة الأعداد النفسي لعدوان 1956 بدأت في الواقع سنتين قبل ذلك التاريخ، وذلك بسبب تكاثر الأنظمة التقدمية في الجمهورية العربية المتحدة وسوريا والعراق والجزائر الذين طرحوا ولاول مرة المشكل الحقيقي وهو تحرير فلسطين على أيدي الفلسطينيين أنفسهم . والفلسطينيون من جهتهم لم ينتظروا أن يطرح هذا المشكل، فمنذ فاتح يناير 1965 بادروا الى تفجير المقاومة المسلحة بنسف المنشآت المعدة لتحويل مياه الأردن، ولكن الى حدود تلك الفترة، كان الأطر الشمال – افريقيون يتقبلون الشعارات الصهيونية الآنفة الذكر بسهولة، لانهم كانوا يجدون فيها تأكيدا لحكمهم الشامل والتحقيري لبلدان الشرق الأوسط وشعبها وقادتها.
ب – عدم ادراك الظواهر الداخلية للشرق الأوسط
ان شمال – أفريقيا بحكم بعدها عن الشرق الأوسط، لم تعرف ظواهر التحول التي هزت الشرق الأوسط منذ صدمة 1948 (16). ولا نعرف من تلك الظواهر سوی جوانبها الخارجية والسلبية، كما كانت تنقلها الصحافة الغربية الموالية للصهيونية.
وتتلخص تلك الظواهر باختصار في ثلاث تيارات :
– الظاهرة الأولى :
الضباط الشبان الذين أدركوا وهم على جبهة فلسطين أن المسؤولين الحقيقيين في تأسيس إسرائيل هم اقطاعيات الخونة الحاكمين، وهذا ما كان يعبر عنه وبحق بعبارة “اسرائیل موجودة في القاهرة”، وبعد استلام السلطة على اثر انقلابات عسكرية وفي حين كان تكوينهم السياسي والايديولوجي اوليا، اراد الضباط المصريون الشباب، وبعدهم العراقيون والسوريون، أن يجعلوا من القضية الفلسطينية قضية دولة وجيش رسمي. وقد سقطوا بهذه الطريقة في فخ العدو الذي كان يكرس كل جهوده لطرح المشكل كنزاع بين بلدان متجاورة، ولطمس حتى وجود الشعب الفلسطيني.
وبذلك كان منظور الطغمات العسكرية هذا يدفعها الى القبول بحركة فلسطينية وتشجيعها شريطة أن تخضع لوصايتها، وأن تحتفظ هي نفسها (أي الطغمات العسكرية بالمبادرة واختيار التوقيت ( توقيت المعركة مع العدو). وكان هذا التوقيت رهینا طبعا باقامة جيوش مدربة الخ …
– الظاهرة الثانية :
هي ظاهرة الاخوان المسلمين التي فقدت حاليا من اهميتها، في حين كانت تمثل تیارا قويا وجد نشيط في السنوات ما بين 1948 و 1960، وكان هذا التيار بطرح المشكل بصيغة دينية وكواجب ديني يقتضي معركة مستمرة ولو كانت تفتقد إلى التنظيم وميؤوسا منها. والمبادرات التي كان يتخذها أدت به تدريجيا إلى التصرف كعدو للحكومات الحديثة العهد بالسلطة والى اهمال القضية الفلسطينية، للقيام باعمال العنف ضدها (اي الحكومات)، والامبريالية التي كانت تتتبع هذا الواقع بكل اهتمام، لم تتردد في التدخل لتشجيع هذا التيار وبث “مساعديها التقنيين” الى جانب قادة الحركة (الاخوان المسلمين)، الذين أصبحوا عملاء وأعين للامبريالية من المحيط الى اندونيسيا.
– الظاهرة الثالثة :
ظاهرة “حزب البعث الاشتراكي”، وقد حاول مؤسسه ميشيل عفلق طرح المشكل الفلسطيني كجزء من معركة شاملة أيديولوجية وسياسية، على مستوى العالم العربي الذي سيؤدي تحوله الاشتراكي الى التحرر من الاقطاع والصهيونية والاستعمار.
غير أن هذه الاشتراكية البعثية القائمة على الاستشهادات بالأمجاد السابقة والرافضة مسبقا لحقائق الاشتراكية العلمية، كان عليها أن تتنظم حتميا على شكل طوائف الكاربوناري (17) وخلايا شبه، وان تعمل وسط فئات اجتماعية محدودة وخاصة الانتلجنسيا والضباط العسكربون.
ولكن حزب البعث وضع نفسه كحركة على مستوى مجموع العالم العربي، مما أدى بمؤسسيه السوريين الى العمل على اقامة فروع بعثية في الأقطار العربية الأخرى، وكان كل من تلك التيارات الثلاثة يعارض التيارين الآخرين، في حين كان الشيوعيون العرب يكتفون من جانبهم بالتنديد بالبورجوازية الصغيرة الانتهازية اليمينية منها واليسارية. باستثناء العراق المجاور للاتحاد السوفياتي الذي ظل فيه الشيوعيون يشكلون ظاهرة ثانوية، لان امميتهم البروليتارية منذ 1948، ظلت مقتصرة على تبرير الدبلوماسية والاستراتيجية السوفياتيتين.
ولكن رغم البوليميك والصراعات فيما بينها، فان تلك التيارات الثلاثة كانت تكافح الاقطاع وكان لكل منها نصيبه في تصفية الأنظمة الاقطاعية، وبالتالي كان لا بد من تعزيز يقظة وتضامن الحكومات الاقطاعية التي بقيت متواجدة وكذا تحالفها مع الامبريالية.
ومن هذا كله لم يقتصر اهتمامنا سوى على المظاهر الخارجية وعلى البوليميك والانقسامات. ولقد تم عرض تلك الانقسامات دائما، وأبدا وكأنها ناتجة عن العقلية العربية وكأن اقطاعي عميل للامبريالية يمكنه أن يتوحد مع حركة تحررية. والاطر الشمال – افریقيون وهم يركزون على المظاهر الخارجية، فقط تعودوا على الحكم على الشرق الأوسط برمته وعلى الخلط بين الشعوب والحكوماته وعلى اقناع وتهنئة أنفسهم بكونهم « متفوقين و مختلفين» من حيث العقلية عن عرب الشرق الأوسط، العاجزين عن العقلانية والديكارتيها، وفي الواقع لم يترك أولئك العرب اليسار الفرسي والثقافة الاستعمارية الجديدة الموحدين في نفس التضامن الفعال مع الصهيونية يؤثران عليهم، فموضوعية أولئك العرب هي انهم عايشوا المشكل الفلسطيني مباشرة، ولم يتجردوا قط من ذاتيته الوطنية، التي بدونها لم يكن بوسعهم التفكير كوطنيين .
وكان لا بد من حرب 1967 کي تتم اعادة النظر، اعادة نظر جزئية كما رأينا سابقا، ولم يكن ممكنا أن يتم الامر على غير هذا الشكل نظرا لاشكال التفكير في الثقافة الرأسمالية الاستعمارية، ولعمل الاثارة الدائم الذي تقوم به الصهيونية سواء مباشرة أو بواسطة اليسار الفرنسي، واخيرا لواقع العالم العربي الذي لم يكن أطرنا يهتمون الا بمظاهره الخارجية والسلبية.
وقد اثار اندلاع المقاومة الفلسطينية وتطورها اعادة النظر في الأفكار الملقنة، غير أن الخلط ما زال قائما حول ما هو اساسي مع ما له من عواقب وخيمة، اذ أن الأمر لم يعد مجرد تضامن فكري وعاطفي بل معركة دموية ويومية.
* يتبع في الجزء الاخير
ااا – عناصر الخلط الجديدة ونتائجها العملية الحالية.