فيديريكو غارثيا لوركا والمغرب خوان لويس طابيا ..
ترجمة وتقديم: ذ. عبد المنعم الشنتوف
كشف هذا النص الذي نقدم ترجمته عن الأصل الإسباني الصلات التي احتفظ بها شاعر غرناطة القتيل فيديريكو غارثيا لوركا مع المغرب، وتخصيصا طنجة التي كانت خاضعة لنظام الوصاية الدولية وجهة الشمال التي كانت حينها خاضعة للحماية الإسبانية. ويشدد الشاعر والصحافي الإسباني خوان لويس طابيا الذي يشتغل بجريدة غرناطة اليوم والذي اضلع بمسؤولية المحرر الثقافي ليومية «أيديال» الغرناطية والذي اشتهر بتحقيقاته عن العالم العربي ودفاعه عن الإرث العربي للأندلس الإسبانية على سمة الالتباس التي ميزت هذه الصلات.
تقترب هذه المقالة من تفاصيل ظلت مجهولة في سيرة الشاعر الإسباني وتتعالق بصفته الرسمية بوصفه سكرتيرا لوزير التربية العمومية فيرناندو دي لوس ريوس، في عهد الجمهورية الإسبانية الثانية التي أطاح بها انقلاب الجنرال فرانسيسكو فرانكو وهي الحقيقة التي ظلت مغيبة لأسباب غامضة في الرواية الرسمية التي جرى الاحتفاظ بها في ما يهم إعدام الشاعر الغرناطي.
النص:
انصرمت ثمانون عاما على مرور فرقة لاباراكا المسرحية التي كان يديرها فيديريكو غارثيا لوركا بمعيّة أدواردو أوغارتي في طنجة. حدث ذلك في 15 إبريل/نيسان من عام 1934 في مسرح ثيرفانتيس الكبير في طنجة الذي كان حينها معلمة لافتة للثقافة الإسبانية في المدينة، التي كانت حينها خاضعة لنظام الحماية الدولية ومعقلا للمثقفين. وقد تصادف في ذلك التاريخ أن كان لوركا موجودا في الأرجنتين، وهو ما حال بينه وبين ان يرافق فرقته في هذه الرحلة إلى شمال افريقيا. على الرغم من ذلك، فإن العلاقات التي وصلت بين الشاعر الغرناطي والمغرب كانت قد بدأت قبل سنوات من هذا التاريخ، بوصفه مستشارا للوزير فرناندو دي لوس ريوس أثناء زيارة أرخ لها واستعادها كاتب سيرة لوركا ميغيل كاباليرو.
دشنت فرقة لا باراكا أولى علاقاتها في طنجة في أوائل عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. ويعود الفضل في ذلك إلى الصلات التي أقامها لوركا نفسه مع الوسط الثقافي في طنجة، وتحديدا من خلال شخصية يحف بها الغموض، ولَم تحظ بما يكفي من البحث ويتعلق الأمر بالمدهش والمثير أيكا لابوس، علاوة على غيتاس ويعقوبو بن تاتا. وقد ذكرت مجلة «طنجة» المصورة عددها الصادر بتاريخ 15 إبريل عام 1934 إن الفضل في قدوم الفرقة المسرحية الإسبانية إلى طنجة يعود إلى يعقوبو بن تاتا.
يرد اسم هذا الفاعل الثقافي في لائحة الرحلات التربوية الموجهة إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، التي شاركت فيها إيزابيل شقيقة الشاعر فيديريكو غارثيا لوركا ولاورا دي لوس ريوس، التي تميزت بوصفها إحدى ألمع الشخصيات الشابة لجيل 27 التي حرص لوركا نفسه على التعرف إليها وأن يمحضها وده وصداقته. وكان كاتب الصحيفة الطنجاوية قد وصف يعقوبو بن تاتا بكونه عاشقا ومحبا لما يمثله عمل ثقافي. وقد حرص بنفسه على تهيئة الظروف المناسبة لتقديم الفرقة المسرحية الإسبانية. ويتعين علينا ـ نحن الطنجاويين ـ خصوصا ذوي الأصول الإسبانية أن نستمتع بمسرات ومتع هذه التحفة الروحية من تراثنا المسرحي الكلاسيكي، التي سوف تتيحها لنا هذه المجموعة من إخواننا ذوي الحماسة المشبوبة احتفاء بذكرى قيام الجمهورية. ربما أصبح أعضاء فرقة لاباراكا أبطالا جددا سيعلو شأنهم وأقل ما يكون في وسعنا باعتبارنا إسبانا أن نخصهم بجزيل الشكر بتأثير هذه الزيارة.
كانت هذه إذن كلمات الاستقبال والحفاوة التي خصت بها صحيفة «طنجة» المصورة شباب فرقة لا باراكا. وقد وصفت الصحيفة نفسها عمل وروح الفرقة كما يلي: وضعت هذه الجماعة من الطلاب نصب عينها غاية تمثلت في نفض الغبار عن مسرحنا الكلاسيكي المنسي، الذي يتسم بثراء وبهاء لا نظير لهما، وأن تكتشف هذه الكنوز التي طالما ظلت مجهولة من لدن الأجيال الراهنة، بما يستدعيه ذلك من ديكورات ومسارات وتأويل، وقد جرى بحث ودراسة كل ذلك بصيغة تتوافق مع المعايير الحديثة للفن ولا تقل من حيث قيمتها عن المسرح الروسي أو الألماني. وقد ترعرعت ونمت فيها روح جديدة اكثر إنسانية، من شأنها إمتاع وتسلية الأرواح البسيطة للشعب. كان الإخراج واللعب على الخشبة المستلهم من الميول والتوجهات ذاتها منجزا من لدن فنانين ذوي الهام وموهبة استثنائية مثل، أونطانيون وغايا وبونسي دي ليون الذين استخدموا أقصى ما تتيحه مواهبهم وطاقاتهم من أجل إشباع هذه الغاية.
كان مسرح ثيرفانتيس الفضاء الأمثل، وكان بمثابة جوهرة في الهندسة الإسبانية، وقد جرى افتتاحه مؤخرا في سياق احتفال كبير من لدن وزارة الثقافة. وقد تحولت هذه القاعة الى مركز للنشاط الثقافي في طنجة، ومثل فيه العديد من الفرق المسرحية، ونمثل لذلك بمارغاريتا أكسيرغو وغيريرو وسيسيل سوريل، علاوة على الفرق المسرحية المغربية الرئيسية. لم يلبث مسرح ثيرفانتيس ان أصبح فضاء احتضن نشأة المسرح المغربي والإبداعات الركحية الجديدة لتلك اللحظة.
كان فيديريكو غارثيا لوركا في عام 1934 شخصية ثقافية معروفة في الأوساط الثقافية في طنجة، التي كانت تحظى حينها بحياة أدبية نشيطة كان مسرحها العديد من المقاهي مثل سنطرال وباريس وإسبانيا وفوينطيس، وكانت نقاط التقاء العديد من الفنانين والكتاب ومسرحاً لنقاشات وأحاديث صاخبة. لم تعدم جولة فرقة لا باراكا التي امتدت إلى تطوان وسبتة بعض الحكايات التي كان أبطالها بعض الكوميديين الجوالين، وهو الاسم الذي اختار لوركا نفسه أن يخص به أعضاء فرقته. وتتذكر كارمن لاشواتي التي كانت واحدة من هؤلاء في سياق أحد حواراتها واحدة من هذه الحكايات الخاصة برحلة المغرب. وتتعلق إحداهن بتعطل حركة القطارات في الأندلس، واضطرار الفرقة إلى أن تستقل سيارات أجرة تصل بين ملقة والجزيرة الخضراء. كانت الفرقة المأخوذة بالاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية في إسبانيا قد جرى استقبالها من لدن التمثيلية الإسبانية بحضور ممثلين عن الهيئات الدبلوماسية الأخرى، وتتذكر لاغواتسي في هذا السياق أن الجميع كانوا مضطرين للجلوس فوق طنافس مطروحة فوق الأرض.
بعث فريق الكوميديين الجوالين برسالة إلى فيديريكو، حملت توقيع الأعضاء الثمانية عشر للفرقة، ولا تزال محفوظة في مؤسسة لوركا في غرناطة. وقد خضعت للبحث والتحقيق من لدن الباحث روجي تيلين. ومما جاء فيها: دفعتنا الإثارة العظيمة التي تولدت عن حضورنا في طنجة إلى أن نحيي اليوم حفلة أخرى في تطوان، وليلة غد في سبتة. نحن في حالة حبور لا توصف وان كنّا نفتقدك بشدة.
لم يرافق فيديريكو لاباراكا في اأي من هذه العروض التي قدمتها عام 1934. بيد أن صلاته بالمحمية الإسبانية في المغرب كانت قد بدأت قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ. في ديسمبر/أيلول 1931 ومع بداية عهد الحكومة الجديدة للجمهورية، تلقى فيديريكو أمراً من فرناندو دي لوس ريوس بأن يرافقه بصفته سكرتيرا شخصيا في زيارته الرسمية الأولى إلى المحمية الإسبانية في المغرب. وهو ما أكده المؤرخ الغرناطي ميغيل كاباليرو في كتابه «لوركا في افريقيا الشمالية: رحلة إلى المحمية الإسبانية في المغرب عام 1931» والصادر عن مؤسسة لوركا. وبالإضافة إلى وفد الحكومة الجمهورية كان ثمة رافاييل ترويانو دي لوس ريوس ابن شقيق الوزير الذي كان بدوره سكرتيراً. وكانت الغاية المصرح بها لهذه الرحلة الرسمية، كما علق المؤرخ تتمثل في تفقد المؤسسات التعليمية كي يشرع الوزير في تطبيق إصلاحاته. يذكر كاباليرو إن من الدوافع الأخرى لهذه الزيارة تأكيد مسؤوليته في دعم الحاكم المدني الإسباني، الذي حلّ عِوَض الجنرال سان يوريو الذي أبدى جزء كبير من الساكنة الإسبانية في الشمال انزعاجه وقلقه من تعيينه.
وفِي السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول عام 1831 حل الوفد الرسمي في المغرب وأقام فيه إلى حدود الثلاثين من الشهر نفسه. وقد رافق فيديريكو لوركا ورافايل ترويان الوزير فيرناندو دي لوس ريوس في زيارته لمدن تطوان وسبتة والقصر الكبير وشفشاون: كان فيديريكو في خدمة فيرناندو دي لوس ريوس وأسهم في تحرير العديد من خطاباته. يكتب كاباليرو في سياق وصفه للشاعر، وقد تحول إلى موظف رفيع المقام في خدمة الجمهورية: يمكنكم ان تتخيلوا الشاعر لوركا واقفا قبالة كتيبة من الجنود. وحسب كاباليرو، فقد ساقت مفارقات الحياة فيديريكو لوركا إلى أن يقيم في منزل الجنرال ميغيل كانابيلاس، الذي كان أحد القادة العسكريين الذين شاركوا في انقلاب الجنرال فرانسيسكو فرانكو عام 1936. وقد اغتنم لوركا فرصة هذه الزيارة القصيرة كي يزور أحد أقاربه الذي كان يملك صيدلية في مدينة تطوان والذي سيفارق الحياة عام 1938 بعد تناوله لجرعة زائدة من المورفين. لعل أحد مظاهر هذه الزيارة التي سوف يتم استخدامها بوصفها أدلة اتهام ضد لوركا ودي لوس ريوس من لدن الانقلابين، تتمثل حسبما يشرحه كاباليرو في استقبال ممثلي الطوائف اليهودية والإسلامية والماسونية، أثناء هذه الزيارة. وقد أصبح معروفا بالاستناد إلى الوثائق الغزيرة المتوفرة انتماء دي لوس ريوس إلى الماسونية، وقد أكد العديد من التخصصين بالإضافة إلى ذلك التحاق لوركا بالمحفل الماسوني. والثابت يقول كاباليرو إنه في سياق هذه الزيارة جرى تنظيم لقاء للماسونية أثناء حفل غداء في مدينة العرائش.
انضاف إلى تهمة الولاء للماسونية واليهودية دافع آخر سوف يقوم قادة الانقلاب الفرانكوي بتضمينه في خطاباتهم الخاصة بهذه الرحلة إلى المحمية الإسبانية: «كان الخطاب الذي ألقي أمام طائفة اليهود السفارديم والمحفل الماسوني بمثابة أدلة دامغة خولت اتهامه بالماسونية والماركسية واليهودية» وقد تضمن صك الاتهام ذاته اسم الشاعر.
يؤكد ميغيل كاباليرو إسهام فيديريكو في تحرير العديد من الخطابات التي ألقاها فيرناندو دي لوس ريوس أثناء هذه الرحلة: «كانت غالبية هذه الخطابات الرسمية تشدد على التسامح والتعايش بين الطوائف اليهودية والمسلمة والنصرانية».