في الجزائر، لم تعد كلمة “مجاهد” وصفًا لتاريخ نضالي أو شهادة نابعة من معارك التحرير، بل تحولت إلى وسام يوزع مثل أكياس الدقيق المدعم، يكفي أن تبتسم للكاميرا وتصافح الرئيس، لتُمنح لك، وإن كنت قد قضيت نصف عمرك تلعن الأسطورة الوطنية على المباشر.
آخر “المجاهدين” الجدد؟ رشيد بوجدرة، نعم، الكاتب، المتمرد، الملحد، ساخر القوميات، المشاكس الذي قال بعلو صوته إن الصحراء مغربية وإن النظام الجزائري يعيش على “أسطورة الدولة” و”عقدة العسكر”. نفس الرجل الذي اتُّهم يوما بخيانة “الروح الثورية”، عاد اليوم ليستقبل بابتسامة صفراء من عبد المجيد تبون تحت عنوان: “لقاء الرئيس بالمجاهد الكبير”. المشهد: ضحكة مجمدة، مصافحة بروتوكولية، وكاميرا تقرأ الفاتحة على ما تبقى من المنطق.
هنا، لا يهم من تكون أو ماذا قلت، المهم كيف يمكن استغلالك، فالنظام الجزائري يمتلك قدرة خارقة على تحويل خصومه إلى أيقونات وقت الحاجة، كما يحول الحليب إلى أزمة، والكذبة إلى شعار رسمي. في بلاد الجنرالات، لا تناقض في أن ترفع صورة بوجدرة وهو يعلن مغربية الصحراء، ثم تضع وسام المجاهد على صدره، العبرة ليست بالحقيقة، بل بالسيناريو، مرحبا بك في مسرحية الوطن، من إخراج وزارة المجاهدين وإنتاج شركة سوناطراك.
لنقف لحظة: من هم المجاهدون؟ في الجزائر الجديدة، الجميع مجاهد، من تاجر العملة إلى كاتب الشعر العمودي، من لاعب الخفة في قنوات العسكر إلى مؤلف الروايات الممنوعة في التسعينيات. يكفي أن تنسى ما قلته بالأمس، وتبتسم قليلا اليوم، لتدخل نادي “المجاهدين الجدد”، أصبحنا أمام دولة توزع النياشين كما توزع التهم: بالجملة، وبلا حساب.
الخطير في الأمر ليس فقط تشويه التاريخ أو السخرية من مناضلين حقيقيين قضوا شبابهم في الجبال والمعتقلات، بل هذا الاستهتار الجماعي بمعنى “المواقف”، فإذا كان بوجدرة، الذي هاجم علنا خرافة الثورة الرسمية، واستنكر القمع والتضليل، يمكن تحويله إلى أيقونة وطنية في دقائق، فماذا تبقّى من كلمة “موقف”؟
في النهاية، ربما يحق لنا أن نقترح: لماذا لا يتم تعميم اللقب؟ لنسم الجميع “مجاهد”، سائق الطاكسي؟ مجاهد، الكوميدي في قناة النهار؟ مجاهد. حتى من يبيع الشاي في البرلمان، عنده حتماً رواية ثورية تستحق التوثيق.
أما رشيد بوجدرة، فنتمنى له السلامة، ليس من الزجاج ولا من القمع، بل من لعنة التوظيف السياسي، فالتاريخ لا يرحم من قبلوا أن يعلَّقوا كديكور على جدار الكذب الرسمي والنظام، كما نعرف، لا يحيي أحداً… إلا ليدجّنه.