الوضوح

شاركها

عبد الصمد الشنتوف: الشيخ و سبعة رجال

الشيخ وسبعة رجال،

 

بقلم: عبد الصمد الشنتوف
اعتقدت دائما أن ابن تاشفين هو أعظم سلطان في تاريخ البلد، وأن مدينته هي الأجمل بين كل المدن. ولا أظنه كان مخطئا حين تعامل بفظاظة مفرطة مع ملك اشبيلية الذي نكث العهد، وراح يتحالف من جديد مع ألفونسو ضد إخوانه من الأمراء العرب.
غير أن الشاعر أحمد شوقي كان له رأي آخر، تجلى بوضوح في مسرحيته النثرية الوحيدة “أميرة الأندلس”، التي تدور أحداثها بين اشبيلية وأغمات خلال زمن ملوك الطوائف. تحامل فيها كثيرا على ابن تاشفين، وانحاز الى المعتمد بن عباد بشكل فج، كما لو اعترته حمية الشاعرية عملا بمبدأ “انصر أخاك الشاعر ظالما أو مظلوما”. فما كاد يسدل ستار المسرحية حتى هب شاعر الحمراء محمد بن ابراهيم واقفا، يلقي قصيدة طويلة ينتقد فيها تطاول أمير الشعراء على أمير المرابطين.

في سهل بداخوس، ما أن فرغ سلطان المرابطين من قتال النصارى وهزيمتهم، حتى أخذ بتلابيب المعتمد بن عباد محذرا إياه من وضع يده في يد ملك قشتالة مستقبلا، لكن الشيطان ركب رأسه فنكص على عقبيه مخلفا وعده وقسمه.
قبل ذاك، لبث الملك الشاعر محاصرا داخل أسوار اشبيلية لشهور طويلة رافعا يديه مبتهلا إلى السماء، عاجزا تماما عن مقاومة أعدائه. لم تنفعه قصائده وجواريه في دفع الخطر المحدق به، كما أن جيشه المتخاذل لم يستطع التصدي لجيش قشتالة المتربص بإمارته.
بعد تردد كبير، استنجد مضطرا بسلطان مراكش القوي. كاد ملكه أن يسقط لولا ابن تاشفين. لم يفتأ أن قام المرابطون بتلبية النداء على الفور، فحصلت معركة الزلاقة الفاصلة قرب مدينة بداخوس، وبقية القصة معروفة.
تجرع ألفونسو السادس مرارة الهزيمة، وغادر أسوار اشبيلية مهانا مدحورا عائدا من حيث أتى. وبذلك يكون سلطان مراكش قد ساهم في إطالة أمد الإمارة الأندلسية أزيد من مائتي عام.
لكن، بمجرد ما هدأت العاصفة وانتفت حالة الخطر، عاد ملك اشبيلية إلى سيرته الأولى منغمسا في حياة البذخ واللهو بقصره البديع، مستأنفا إلقاء قصائده في مجالس الخمر، متمرغا بين أحضان جواريه، دون أن يتورع عن إعلان الحرب على جيرانه من ملوك الطوائف، وكأنه لا يقوى على قتال غير المسلمين. الشيء الذي أغاظ ابن تاشفين، فقرر العودة إلى الأندلس مرة أخرى قصد تأديب هؤلاء الملوك الأوغاد، وطردهم من الحكم. سرعان ما بسط سيطرته على ربوع الأندلس وتم إخضاع الجميع، ليصبحوا تابعين لمملكته. ما لبث أن ألقى القبض على شاعر الأندلس ونفاه إلى بلدة أغمات خارج مراكش رفقة زوجته الرميقية، لتنقلب حياته رأسا على عقب. ظل المعتمد بن عباد ينظم قصيدة تلو أخرى في رثاء نفسه، يبكي على ملك أضاعه من بين يديه حتى مات من شدة الضيم والغبن، ليدفن لاحقا في قبر متواضع مزين بأبيات شعرية مرهفة.

قضيت يوما كاملا أتسكع بين أزقة ضيقة ودروب عتيقة تعبق منها رائحة التاريخ، أذرع ميدان جامع الفنا جيئة وذهابا تحت حر الشمس. عندما يشتد بي العطش، ألجأ إلى كشك البرتقال لأشرب عصيرا باردا وأخوض في حديث شيق مع صاحبه. عموما، الناس هنا طيبون وعشرتهم سهلة. يواجهونك بسيل من الابتسامات، ويحدثونك بسلاسة، ثم يمطرونك بعبارات الود والمجاملة.
مشيت بمحاذاة مقهى أركانة. وقع بصري على مظلة سوداء بالية على بعد خطوات قليلة، يحتمي بها رجل مسن من لفحات الشمس. يكاد عمره يتجاوز السبعين بقليل. شيخ وقور صامد في وجه الزمن. يرتدي جلبابا مهلهلا يستر به جسده الضامر، ويضع نظارات طبية سميكة على أرنبة أنفه ،يربطها بحبل مطاطي خفيف يلفه خلف رقبته. بدا كما لو أن الحياة حرمته من نعيمها، ونالت منه تضاريسها بلا رحمة. تغزو وجهه تجاعيد قاسية، وتطل شعيرات خشنة بيضاء من منخاريه. من حين لآخر، كان يتحسس بيده اليمنى طاقية بلون أصفر حائل، وكأنه يخشى أن تطير الحكايات من رأسه.
يجلس سي المدني وراء منضدة خشبية مهترئة. على سطحها يرتاح مخطوط مغبر قديم يشبه سجلات المحاكم الشرعية. أمامه آنية شاي. على حواشي المنضدة كرسيان منً البلاستيك مخصصان لزبنائه المهتمين بعالم الحكاية.
تقدمت إليه مستأذنا في هدوء، افترت من شفتيه ابتسامة عريضة قبل أن يومئ لي بالجلوس. فمه شبه خال من الأسنان. أمسك الإبريق ورفعه في الهواء إلى أعلى نقطة يستطيع، ثم أخذ يسكب الشاي في أكواب زجاجية مضببة.
جلسنا نشرب الشاي ونتحدث، ثم قلت له بحماس لافت: أتيتك من الشمال راغبا في معرفة بعض أسرار الجنوب. علت وجهه ضحكة كبيرة، ورد علي بثقة الرجل العارف:
– حسنا، وماذا تريد أن تعرف تحديدا؟ أجبته على الفور: حدثني عن سبعة رجال.
رشف من كوبه بتلذذ، ثم استرسل في الحديث:
– في القرن الثاني عشر، كانت مراكش مدينة النخيل والخضرة والبساتين، “جنة الأرض” بلا منازع. في ذلك الوقت توافد عليها سبعة من الفقهاء والقضاة الزاهدين في الدنيا، نشروا فيها الخير والعلم وأثروا في الساكنة بشكل لا يوصف. وعلى رأسهم أبو العباس السبتي والقاضي عياض دون أن ننسى عالم المتصوفة الإمام الجزولي الذي كان يمتلك شعبية جارفة في المدينة. إضافة إلى أئمة آخرين سطع نجمهم في السماء مثل يوسف الصنهاجي، عبد العزيز التباع، عبد الله الغزواني و أبو قاسم السهيلي. هؤلاء العلماء السبعة خلدت أسماؤهم نظرا لتقواهم وصلاحهم ودفنوا جميعا في مراكش.

ما أن صمت قليلا حتى باغتته بسؤال آخر سبب له بعض الحرج: وماذا عن الباشا الكلاوي؟ شعرت وكأنني أقحمته في موضوع شائك، حدق في عيني برهة، بدا كما لو أنه عازف عن الكلام، ما لبث أن انطلق في الحديث بعد أن تنهد بقوة:
سأروي لك باختصار كل ما أعرفه عن الباشا، أما التفاصيل فقد تجدها في الكتب، لأن شخصية الكلاوي مثيرة جدا وكتب عنه الكثير. زم الشيخ شفتيه وبدأ الحديث بطيئا متعسرا حتى كاد يتلعثم، خيل لي أنني أقتلع الكلمات من فمه بصعوبة، وبعد ذلك بلحظات أخذ الكلام ينساب من لسانه:
– الكلاوي ابن دار المخزن والاستعمار في آن واحد، لا يستقر على حال. نشأ يتيم الأب، إذ فقد أباه وهو طفل صغير، ثم كفله أخوه الأكبر. زعيم قبيلة كلاوة، وثعلب جبال الأطلس. لم يكن عالما ولا فقيها لكنه كان سياسيا ماكرا يعرف من أين تؤكل الكتف. استطاع أن يتسلل إلى قصر السلطان عبد العزير ويؤثر في قرار الحكم زمن السيبة، حتى قويت شوكته وزادت سطوته على المنطقة. مع بدء عهد الحماية، تعاون مع الفرنسيين ضد المقاومة فتمت مكافأته بتعيينه باشا على مراكش. كان حاكما متسلطا قاسيا جمع من أموال الدنيا ما لم يجمعه قارون. قيل أنه كان ينكح مائة جارية، ويمتلك مليون شجرة زيتون في ضيعاته المترامية الأطراف، حتى صار أغنى من السلطان نفسه. اشتهر بمقته للحركة الوطنية، وانقلابه على السلطان بن يوسف، محرضا الاستعمار على إقالته ونفيه بعدما طاف بعريضة في ربوع البلاد، ليجمع أكثر من مائتي وسبعين توقيعا من لدن الباشوات والقواد والفقهاء.
كان قصره معروفا بدار الباشا، يعج بالجواري والروميات. يقيم حفلات الرقص والمجون لضباط الاستعمار، كما كان يستقبل بين فينة وأخرى ضيوفا كبارا وساسة مشهورين من أمريكا وإنجلترا، وعلى رأسهم شرشل وروزفلت وشارلي شابلن.

يصمت سي المدني هنيهة ليأخذ قسطا من الراحة. حمل كوبه، ثم ارتشف رشفة صغيرة. الحقيقة أن الشيخ كان بارعا في الحكي. ظل ينتظر سؤالا ثالثا لكنني لبثت مطرقا أفكر، طافت أسئلة كثيرة برأسي. فجأة انطلق سؤال كالسهم من فمي لم يخطر على بالي من قبل: أعرف أن شاعر الحمراء ألف قصيدة شهيرة يهجو فيها المطعم البلدي بطنجة، لكن هل صحيح أنه نظم قصائد عديدة في مدح الباشا الكلاوي؟
حك الشيخ جبينه، وعدل طاقيته، ثم أردف :
– من سوء حظ الشاعر محمد بن ابراهيم أنه فتح عينيه على عهد الحماية، وتفنن في إنشاد الشعر إلى أن تجاوزت شهرته حدود المغرب. في هذه الأثناء، كان الباشا الكلاوي يتابع خطواته عن بعد، لم يفتأ أن اقتنصه وجلبه إلى قصره كي يستفيد من أمداحه وأشعاره. وتحت ضغط الحاجة، صار شاعر الحمراء يتردد على مجالس الباشا طمعا في عطاءاته وثروته الهائلة. ذلك أنه كان شبه عاطل عن العمل، ويتكسب من قصائده وإبداعاته، مقتفيا بذلك من سبقوه من الشعراء، كالمتنبي الذي مدح كافور الإخشيدي، وأحمد شوقي الذي انبهر بالغازي أتاتورك، فأنشد فيه قصيدة شهيرة. كثير من الناس لا يزالون يؤاخذون الشاعر بن ابراهيم على ارتمائه في حضن الكلاوي خوفا وتزلفا، لكنه في نظري كفر عن أخطائه عندما شارك في مظاهرة وسط مراكش تنديدا بالاحتلال، مما عرضه للسجن بعد ذلك. ما أن غادر أسوار السجن حتى طالته نفحات الحركة الوطنية، ثم انخرط في هجاء الكلاوي ومهاجمة الاستعمار. اضطر بعدها إلى الفرار بجلده من مراكش خشية بطش الباشا المستبد. لبث مطاردا متخفيا بين أسوار فاس ودروبها العتيقة ردحا من الزمن، محتضنا من لدن بعض الفقهاء والمثقفين الوطنيين. معظم هؤلاء تم التنكيل بهم بسبب اعتراضهم على الظهير البربري، وجلدهم بسوط مملح من طرف الباشا البغدادي الذي لم يكن يقل قساوة عن الكلاوي.
إلى هنا توقف الراوي عن الحكي. علامات التعب بدأت تزحف على محياه. كانت الشمس قد مالت إلى المغيب. اصطبغت سماء مراكش بلون قرنفلي فاقع، وأخذت الساحة تمتلئ بالزوار والوافدين.
تصنعت ابتسامة، ومددت يدي إلى الشيخ لأجود عليه بورقة نقدية، ثم هممت بالانصراف.
ما أن استدرت ورائي حتى وجدتني أمام امرأة جذابة في منتصف العمر، منتصبة الطول، ترتدي جلبابا أزرق بفولار مزركش. جاءت تنتظر دورها لمجالسة الشيخ رغبة في الإصغاء إلى محكياته اللذيذة، أو ربما لقضاء مآرب أخرى.
طنجة/ 11 يوليو 2023