التدخل
عبد المولى المروري
التدخل هو أهم صفات الدولة العميقة (المخزن)، وهو أصل وجودها، وضمان استمرارها، والتدخل أهم أدواتها، وأقوى وسائلها، به تفرض إرادتها، وتحقق أهدافها، وبه تقرب خدامها، وتبعد خصومها، #وبالتدخل تنزل سياساتها وتبني مخططاتها، في كل المجالات والميادين، من أكبرها وأضخمها، إلى أصغرها وأدقها، وبدون استثناء ..
التدخل ليس تصرفا فرديا أو مبادرة شخصية من مسؤول، بل هو قاعدة تقف عليها أركان الدولة العميقة، ومنهج تسير عليه في تدبير شؤونها، ونظام يحتوي كل مؤسساتها وأجهزتها، جعلت منه الدولة العميقة ثقافة ينهل منها كل من يوجد تحت سقفها، وأخلاق معظم أفرادها ورجالاتها ومسؤوليها، وسلوك يسلكه كل ذي حاجة، كان قويا أو ضعيفا، كان ظالما أو مظلوما، كان غنيا أو فقيرا، كان رئيسا أو مرؤوسا..
التدخل هو حيلة الضعيف المظلوم الذي فقد الثقة في النظام، نظام الإدارة.. نظام العدالة.. نظام الصحة.. ولا سبيل له لأخذ حقه المهضوم ونيل مراده ذاك إلا سلوك سبيل التدخل بعد أن تقطعت به الأسباب، وحالت دونه الصعاب، وأغلقت في وجهه الأبواب..
التدخل هو وسيلة القوي الظالم، الذي طغى بماله، وتجبر بنفوذه، واستغل قربه من خدام الدولة ورجالاتها، صغارا وكبارا، استغلوا #نظام_التدخل المنتشر في كل أجهزة ونظم ومؤسسات الدولة لتحقيق مآربهم، لأن #التدخل – والحالة هاته – قوي التأثير، سريع التنفيذ، ولا تهم التكلفة مادام المال موجودا، والنفوذ معروضا، والضمير موؤودا..
فهل يخلو مجال أو مؤسسة أو جهاز دون تدخل ؟
من المدرسة إلى المستشفى والمقاطعة والإدارة والمحكمة …
عندما تريد مقعدا في مدرسة لابد من تدخل
عندما تريد سريرا في مستشفى لابد من تدخل
عندما تريد وثيقة من إدارة لابد من تدخل
ليس هذا فحسب .. فالدولة تتدخل في الانتخابات .. في قوانينها، ونتائجها، وتحالفات أحزابها، وتشكيل مجالسها .. وأبسط مثال ما شهدناه في 8 شتنبر، وأفظع مثال، عندما يصوت مجلس جماعي بالإجماع على قضية معينة، ويلغيها رجل سلطة بكل بساطة سلطوية وبشاعة بيروقراطية، ضدا على مجلس انتخبه الشعب، ويحظى بشرعية الشعب.. فالسلطة هنا فوق الانتخابات وأقوى من الشرعية .. لأن التدخل هو أصل الوجود وضمان الاستمرار وأداة التطويع ..
ليس هذا فحسب .. فالدولة – أحيانا – تتدخل في حرية الأشخاص ومصائرهم .. تتابع من تشاء .. وتعتقل من تشاء .. ولو توفر لدى المعني كل ضمانات الحضور .. أو عدم كفاية الأدلة .. وأحيانا تعطي السراح لمن تبث جرمه وانعدمت ضمانات حضوره .. باستعمال نظام_التدخل ، والأمر نفسه ينسحب على بعض الأحكام والقرارات التي تسببت في فواجع ومصائب إنسانية واجتماعية ما تزال فصولها مستمرة.. فهل يخفى هذا الأمر على أحد؟
ليس هذا فحسب .. فالدولة تتدخل – كثيرا – في بعض المشاريع التجارية والاقتصادية الكبري.. فإذا كان المشروع ضد هوى بعض رجالات الدولة، ويهدد مصالح بعضهم، أو لا نصيب لهم فيه، تعقدت الإجراءات، وكثرت الوثائق، وتعاظمت العراقيل، وتعطلت الرخص، وبخلت الأبناك.. وليس هنا لصاحب المشروع إلا استعمال نظام_التدخل لفك الحصار على مشروعه، وإزالة العراقيل والمطبات، وهو تدخل هدية أو هبة أو شراكة أو مناصفة، وإلا على صاحب المشروع أن يبقى تحت سقف معاملة مالية لا يتجاوزها، أو يحمل حقيبته ويغادر الوطن غير مأسوفا عليه..فهل يخفى هذا الأمر على أحد؟
لقد انتقل التدخل من ظاهرة مستهجنة وحقيرة إلى حاجة وضرورة، لا تقضى حوائج الناس إلا به.. كما أنه أصبح أحد وسائل الضبط الاجتماعي والتوجيه السياسي والإعلامي.. فهناك تدخل في القضاء والإعلام والأحزاب والإدارات والانتخابات، أصبح ظاهرة يستعملها الأفراد كحاجة تحقيقا لحق مهضوم، أو وسيلة لفرض واقع ظالم .. وأضحى وسيلة تستعملها الدولة في كل مفاصيل وتفاصيل الحياة ..
التدخل هو نظام سياسي واقتصادي، جعلت منه الدولة ثقافة اجتماعية وقيمة أخلاقية مشاعة ومقبولة، فهو نقيض الاستقلالية والحرية، وضد المؤسسات والقانون، لا يؤمن بالمبادرة الحرة، ولا يعترف بتكافؤ الفرص، ولا يرغب في العدالة الاجتماعية.. ولا يطمئن للحكامة والنزاهة والشفافية.. فكل هذه القيم والمبادئ والنظم تهدد وجوده واستمراره.. #فالتدخل هو إحدى سمات الفساد والاستبداد وأهم وسائله الفعالة والفتاكة ..