توعية الشعب،
المهمة المعطلة
عبد المولى المروري – المغرب
أمام الكم الهائل من البرامج الإعلامية والمواقع الإلكترونية التي ركزت مهمتها في عملية تدجين وتجهيل الشعب المغربي، وتوجيه بوصلة اهتماماته نحو القضايا الهامشية مثل كرة القدم وانتصارات المنتخب ومشاكل اللاعبين وأجورهم وإصاباتهم وتنقلاتهم .. أو نشر فضائح الناس الأخلاقية ومشاكلهم الاجتماعية والأسرية .. أو إشغالهم بالحياة التافهة التي تخص الفنانين والمشاهير إلى أن ينحدر وعيه بمشاكله إلى ما دون الإحساس .. وينخفض نضجه إلى ما دون الفكر .. حتى إذا شعر بالقهر وأضناه الفقر عجز عن التعبير عن آلامه، وعجز عن الحركة لإنقاذ نفسه .. بالطرق العقلانية السليمة .. فإما أن ينزوي الناس في بيوتهم ومخادعهم الضيقة يتجرعون الحسرة ويلوكون المأساة في ذل وخنوع، أو يجنحون إلى الشارع يرفعون أصواتهم بالصراخ ويملؤون الشوارع ضجيجا وهرجا مع احتكاكات بدنية مع رجال الأمن هنا وهناك.. فينتهي المشهد السريالي العبثي دون نتائج تذكر ..
وأمام الانسحاب الجماعي عن المشهد السياسي والإعلامي الذي أجمع واتفق عليه جل المفكرين والمثقفين والعلماء المفروض أنهم مصنفون ضمن شرفاء ونزهاء هذا الوطن، الذين أداروا ظهورهم للقضايا الحقيقية التي تشغل سكان هذا المغرب العزيز، وصاموا عن الخوض في قضايا الحرية وغلاء المعيشة غير المبرر، وأغمضوا أعينهم عن مشاهدة عبثية المشهد السياسي، وتضخم السلطة على حساب المواطن المسكين، وانتشار الفساد والرشوة في كل الإدارات وعلى رأسها مرفق العدالة، وانهيار منظومتي الصحة والتعليم .. وصموا آذانهم عن سماع تأوهات الشعب وأنينه وآلامه، وتركوا المجال لنظرائهم من بني فصيلتهم الذين يرون أن الدفاع عن حرية الجسد أهم من الدفاع عن حرية الرأي والفكر والتعبير ، والدفاع عن العلاقات الجنسية الرضائية أهم من الدفاع عن علاقة السلطة بالشعب التي يجب أن تكون في إطار القانون والحق والعدل.. و تركوا المجال لبعض علماء الدين الذين يطنبون في الحديث عن علاقة العبد بربه، وعن نواقض الوضوء ومكروهات الصلاة دون الجرأة في الحديث عن علاقة الحاكم بالشعب (أي عن علاقة الراعي بالرعية)، أو عن الحديث عن نواقض العدل ومكروهات الجمع بين المال والسلطة.. وكأن العدل ليس من الدين أو أنه ليس من أركان الدولة المسلمة، وكأن الجمع بين المال والسلطة – عند هؤلاء العلماء – ليس مفسدة أو ليس من جملة الآفات التي ينكرها الدين على الحاكم ..
وأمام غياب دور الأحزاب الجاد والفعال في تأطير مناضليها بالشكل الذي يرفع من نضجهم السياسي، ويبني فيهم الإدراك الواعي بالواقع السياسي والاجتماعي، ويؤسس فيهم أدوات التحليل العقلاني والعلمي مع استرجاع واع للتاريخ الحقيقي والاستعانة به لفهم وقراءة الواقع المعيش، وتحليله وتفكيكه بطريقة سليمة، ويزرع فيهم روح المبادرة والحماس والتجرد لتغيير هذا الواقع بأدوات علمية ومنهج سلمي وقوة اقتراحية لا تجامل ولا تهادن ولا تحابي لا سلطة ولا هيئات.. حتى يقوم هؤلاء المناضلون أنفسهم بواجب تأطير الشعب وإخراجه من براثن التجهيل والتضليل التي يتعرض لها بجرعات مركزة في كل وقت وحين ..
لأن، وبدون مبالغة أو مزايدة، الأحزاب السياسية في عمومها تعيش عقما فظيعا في إنتاج النخب الفكرية والثقافية والعلمية التي بمقدورها العمل على الإنتاج الفكري والثقافي الرصين، وإغناء الساحة بإسهامات جادة ومؤثرة تستطيع من خلالها خلخلة المفاهيم الجامدة والأفكار المتبلدة، وبناء وعي وطني عام وناضج له القدرة على إحداث التغيير المجتمعي المطلوب. فالأحزاب تعيش فترة تصحر عام.. تعيش فقرا في إنتاج النخب، فقرا في إنتاج الأفكار ، فقرا في إبداع الحلول، فقرا في إنتاج أطروحة سياسية متكاملة تجيب عن مختلف الإشكالات التي تعيشها البلد .. لذلك أصبحت الأحزاب خاضعة للدولة وسلطتها غير مستقلة عنها، تابعة لها ولقراراتها غير مبادرة .. مبررة لخطاياه وأخطاءها غير منتقدة أو معارضة لها..
في تلك الصحراء السياسية القاحلة التي تاهت فيها الأحزاب، كل الأحزاب دون استثناء، أصبحت هذه الأخيرة تعاني من فقدان نقطة التوازن السياسية التي تضعها على مسافة موضوعية مع الدولة، تلك النقطة التي تجعلها في توازن محكم بين النقد البناء والمعارضة القوية دون أن تصطدم أو تدخل مع الدولة في صراع مجهول النتائج، وبين البحث عن توافقات سياسية عادلة ومنصفة للشعب في إطار الاستقرار، دون السقوط في منطق تبرير خطايا الدولة وخروقاتها السياسية والحقوقية.. وهذا الكلام ينطبق على وجه الخصوص على حزب العدالة والتنمية الذي ما يزال يبحث عن نفسه، هل هو داخل المعارضة أم خارجها؟
إن أي عملية إصلاح أو تغيير لابد أن تكون – لزوما – مسبوقة بنشر الوعي بين المواطنين، ومقاومة برامج التدجين والتجهيل التي دأبوا على استهلاكها لسنوات خلت، لابد أن تنطلق من مساعدة الفرد على إدراك نفسه، واستيعاب واقعه، وفهم حقوقه وواجباته في مجموعها وليس بتبعيضها أو تجزئتها .. وهذه مهمة عظيمة وواجب مقدس موكول لعلماء هذا الوطن ومفكريه ومثقفيه.. الذين فضل جلهم الانسحاب، وآثر معظمهم السلامة على التضحية والجمود على الحركة .. واستحسنوا مهادنة الحاكم على نصحه .. وهذه من أعظم الخيانات التي سيكتب عنها التاريخ وتدون بمداد الذل على صفائحهم السوداء.
فأمام هذا وذاك .. أضحت الحاجة ملحة لانبعاث جيل جديد من المثقفين والمفكرين والعلماء العضويين .. ومن المناضلين الشرفاء من تحت رماد القهر والتهميش الاجتماعي الذي عمر طويلا .. حتى يقوم بواجب التوعية ؛ تلك المهمة المعطلة إلى حدود الساعة .. لابد من انتفاضة فكرية واعية داخل الأحزاب والمجتمع كي تتمرد على التجهيل الممنهج والخنوع المستحكم في النفوس والتنظيمات ..
لذلك فإني أعتبر من أهم المنطلقات الأساسية التي يمكن من خلالها المساهمة في نشر الوعي لدى المواطنين هو ما أطلقت عليه إعلان الكرامة و الحرية ، هذا الإعلان الذي يجب أن يساهم فيه علماء ومثقفو ومفكرو هذا الوطن، واعتباره بداية واعية تتحرك فيها الأقلام المخلصة، وتنظم لها الندوات والمحاضرات ولو تحت المنع والحصار السلطوي، وتتجند له الأصوات الحرة النزيهة كي تدبج فيها مطالب الشعب واحتياجات الوطن ، ويُعتمد كوثيقة وطنية وشعبية من أجل مغرب الكرامة والحرية