نائل المجد في خريف فرنسا
عبد المولى المروري – المغرب
الكثير من أصحاب الفكر السطحي يناقشون ما يقع في فرنسا من أحداث عنف على خلفية قتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية في علاقته فقط بالشأن الفرنسي، ولا قدرة فكرية لهم على ربطه بسياقات وتحولات حضارية كبرى يعرفها العالم.. وأبطال هذه السطحية هم بالأساس غلمان فرنسا الذين يعشقون مذهبها ويتمنوا لها العودة إلى الحياة الطبيعية من جديد وعلى وجه السرعة..
ما يقع الآن من أحداث تتجاوز عملية قتل عادية.. والدليل هو تفاعل الداخل الفرنسي والعالم بأسره.. لأن عملية القتل وحدها هو انعكاس لأزمة ثقافية ونفسية تسكن عمق ووجدان الإنسان الفرنسي .. وتعبر عن حجم الكره الدفين والعنصرية المركزة التي تتوغل وتتضخم في اللاشعور الفرنسي.. وتتحين أي فرصة ولو عابرة كي تقفز من العقل الباطن إلى الخارج عبر تعابير قد تبدأ بإهانة بسيطة .. وقد تصل إلى عملية إعدام ذات طابع شخصي ..
وما يقع في فرنسا الآن لا يمكن عزله عما وقع في تزامن عجيب مع السماح بحرق القرآن الكريم من طرف السلطات السويدية بفعل متطرف حاقد.. وهذه الجريمة قد يعتبرها البعض تصرفا شخصيا لا ارتباط له بالحكومة السويدية ويندرج في إطار حرية التعبير.. كما سبق وأن انتدب غلمان فرنسا أنفسهم للدفاع عن جريمة الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من طرف جريدة شارلي إيبدو، حيث اعتبر اولئك الغلمان أن ذلك حرية تعبير لا يستدعي كل هذا الانفعال..
إن واقعة نائل ليست بالحدث العابر، ولن يعيد فرنسا سريعا أو قريبا إلى الحياة الطبيعية أمام سرعة اتساع رقعة الاحتجاجات وعنفها .. (وإن كنت أنا ضد أعمال العنف والتخريب وأدينها بشدة)، ولكن شئنا أم أبينا فإن الحدث يقتضي تحليله في سياق يتجاوز التأثر النفسي، ليصل إلى سياق فكري وثقافي أعمق بكثير ..
إن الجيل الذي يقود هذه الاحتجاجات القريبة من الثورة هو الذي ولد ونشأ وتربي في فرنسا ودرس في مدارسها.. وتأثر بإعلامها.. ورضع ثقافتها كما كان يشرب حليبها كل صباح.. فهل تحقق رغم كل ذلك الاندماج الثقافي المنتظر؟
في مناسبات عديدة يدرك الفرنسيون أن المسلمين عامة والعرب خاصة غير مرغوب فيهم في فرنسا، ولولا حاجة الدولة الفرنسية إلى تلك العمالة الرخيصة ما فتحت أبوابها للمهاجرين.. فلابد أن نعترف أن الهدف وراء ذلك هو استقدام بشر من الأراضي المستعمَرة وإدماجهم في الدورة الاقتصادية بصفتهم “شبه فرنسيين” من الدرجة الثالثة، لذلك “دكستهم” في ضواحيها الفقيرة باعتبار أن تلك هي المكانة الاجتماعية التي تليق بهم..
وفي مناسبات عديدة يكتشف المهاجرون أنهم غير مرحب بهم في البنية الاجتماعية الفرنسية، وأن هناك سد منيع يحول دون تمتعهم بالمواطنة الكاملة، رغم انسلال بعض أبناء المهاجرين إلى تقلد مناصب عليا بسبب كفاءتهم التي فرضوها .. أو بسبب الفراغ الذي يعرفه المجتمع الفرنسي .. أو في إطار التسويق الإعلامي والتسابق الانتخابي لجلب أصوات المهاجرين.. المهم أن كل ذلك لا يخرج عن استراتيجية الاستغلال التي اعتمدتها فرنسا منذ حقبة الاستعمار إلى يوم مقتل وائل ..
هذه الاحتجاجات التي هيمنت على المشهد الفرنسي والدولي هي انتفاضة ذات بعد ثقافي أكثر منها بسبب جريمة القتل، هي عودة إلى التاريخ، ومصارحة عميقة تسائل خرافة الاندماج، وتبحث في دماء وائل عن الهوية الحقيقية التي حاولت فرنسا اغتيالها في نفوس المهاجرين واجتثاثها من عقولهم .. ليصبحوا فرنسيي الثقافة والهوى من الدرجة الثالثة دون انتماء لا إلى البلد الأم ولا إلى البلد المستقبِل، المهم لا هم عرب ولا مسلمين .. ولا هم فرنسيين .. وأمام ضياع الهوية يسهل التلاعب بعقول أولئك البشر ..
إن أحداث فرنسا ستتراكم مع أحداث السويد، والاستبداد المنتشر في الدول العربية، والأزمات الدولية ليشكل وعيا جديدا عند الجيل الحالي.. عبر طرح العديد من الأسئلة الوجودية.. وسؤال الهوية، وسؤال الانتماء الحضاري، وأبعاد هذا الصراع .. هي أسئلة تزرعها أحداث قد تبدو للسطحيين عابرة، ولكنها مزروعة في وجدان وعمق وعقل الجيل الذي يعاني الآن.. وستسقيها أحداث أخرى لتستمر في النمو في الجيل الذي يليه، حتى يشتد عودها وتستقيم سوقها في الجيل الموالي .. هكذا يبدأ التغيير .. وهذا هو مساره الأليم ومخاضه العسير .. إلى أن يصل إلى مرحلة الانقلاب الحضاري..
الشهيد نائل نال المجد بإيقاظه لشعور آلاف العرب والمغتربين الذين فشلت فرنسا في طمس هويتهم ومحو ذاكرتهم .. ودفعهم باستشهاده إلى العودة إلى الذات والهوية والتاريخ .. ويذكرهم أنهم ليسوا فرنسيين، بل هم مجرد مهاجرين، ولكن نهضة فرنسا قامت على أكتافهم وجثث آبائهم.. ويجب أن ينتزعوا حقوقهم كاملة .. أدناها الاحترام .. وأوسطها اقتسام الثروة الفرنسية التي ساهموا في مراكمتها .. وأعلاها استرجاع ما نهبه الفرنسيون .. خاصة الهوية والتاريخ والكرامة ..
فرنسا لن تحيى من جديد أيها المغفلون، ولن تعود كما كانت، ستتوقف أعمال الشغب المعبرة عن احتجاجها للممارسات العنصرية الممنهجة، وتمة شيئ آخر سيبدأ بعدها، هو العودة إلى الذات والرجوع إلى الهوية المستهدفة .. فرنسا تعيش خريف عمرها بعد سنوات من الغطرسة والطغيان والاستبداد والسرقة والنهب والجرائم التي ارتكبتها في حق عشرات الدول وملايين البشر .. فرنسا تعرف زحفا قويا قادما من الجنوب، يحمل معه سخطا واحتقانا ربط الماضي الاستعماري بالحاضر العنصري، وسيغير شكلها وهويتها ونظامها، سيقلب فرنسا رأسا على عقب .. والأيام بيننا ..