الوضوح

شاركها

عبد المولى المروري: نقطة انعطاف كونية (1)

نقطة انعطاف كونية (1)

 

 

عبد المولى المروري – المغرب

 

الأحداث التي تتحرك في العالم أو تحرك العالم ليست أمرًا اعتباطيا أو عشوائيا، وليست فوضى عالمية، بل إنها تدخل ضمن السنن الكونيةوالقوانين الاجتماعية التي وضعها الله للبشرية في إطار دورة حضارية منظمة مندرجة تحت قوله تعالى : وتلك الأيام نداولها بين الناس..

 

فكل هذه الأحداث المتتالية والوقائع المتراكمة هي عبارة عن مؤشرات تنذر بتحول عميق ستعرفه البشرية على المدى المتوسط أو البعيد، وإنظهرت متفرقة وعشوائية، إلا أنها تشكل في مجموعها عناصر التحول الرئيسية التي تدخل ضمن نسق تاريخي له تمظهرات مختلفة، وهذاالنسق يؤدي بطريقة تكاد تكون حتمية إلى نهاية واحدة، وهي نهاية حضارة وبداية أخرى.. أو بتعبير آخر .. موت قوة .. وولادة قوة أخرى .. على شكل تدحرج الكرة، وسرعة التدحرج تتحكم فيها قوة الأحداث وتكاثفها وسرعتها..

 

فقوانين الحضارة الإنسانية، كما تؤكد ذلك كتب التاريخ والشواهد الواقعية، أن كل حضارة تعرف مرحلة الولادة أو النشوء، وهي ولادة تكونصعبة وأليمة، وتكون مليئة بالمشاكل الاجتماعية والأزمات اقتصادية والسياسية، والاضطرابات الأمنية، ثم تدخل مرحلة الاستقرار السياسيوالبناء الاقتصادي والسلم الاجتماعي.. بعدها تعرف تقدما مهما في مختلف المجالات وازدهارا كبيرا على عدة أصعدة، ويستمر الوضع إلىأن يتجاوز حاجتها لتصل إلى مستوى الرخاء الاقتصادي والترف الفاحش الزائد عن الحد والمعقول، كما تصاب المعدة بالتخمة جراء الإفراطفي الأكل، فيسبب ذلك اختلالا وعلة على مستوى الجهاز الهضمي، كل ذلك مقرونا بحالة من الطغيان السياسي والأمني، والتمرد علىقوانين الطبيعة وضوابط الاجتماع الإنساني الطبيعي.. إنها “التخمة الحضارية”، الأمر الذي يؤدي إلى اختلال في عناصر التوازنالحضاري، لتدخل مرحلة الانحدار ثم الانهيار ..

 

إن نقطة الانعطاف الحضاري أو الكوني لا تؤدي بالضرورة إلى اتجاهٍ نحو السقوط والانهيار، لأن اتجاه منحنى دالتها تتحكم فيه عواملكثيرة ومتداخلة، منها الداخلية، ومنها الخارجية.. فإذا استطاعت أي حضارة قائمة مقاومة أسباب سقوطها وأفولها، إلا ومكنها ذلك منتجاوز نقطة الانعطاف الخطيرة، وحافظت على وجودها، واستمرار صعودها.. أما إذا عجزت عن ذلك واستحكمت في أركانها وهياكلهاعناصر وأسباب الضعف والانهيار، فإن نقطة الانعطاف ستؤدي بالمنحنى في اتجاه السقوط الذي سينتهي بها إلى الأفول والزوال..

 

العالم اليوم وصل إلى نقطة الانعطاف تلك، سواء تعلق الأمر بالعالم الغربي، أو العالم العربي الإسلامي، أو العالم الآسيوي.. ويبدو خلالهاأن أمما يتجه منحناها الحضاري نحو الانحدار، وأخرى سيدخل منحناها إلى مرحلة من الاستقرار والحفاظ على الوجود لفترة من الزمن،وأمما أخرى سيعرف منحناها انطلاقة جديدة نحو الصعود بعد انحدار دام لعدة قرون .. حتى لا يبقى هناك فراغ حضاري بين الأممالمشكلة للاجتماع البشري على هذه الأرض..

 

1/ الأمم الغربية:

يبدو أن منحنى العالم الغربي يقف على نقطة انعطاف خطيرة للغاية، تتكون عناصرها من ثلاث مكونات تعد من أهم أسباب انهيارهاالحضاري المرتقب :

 

أولها: لقد دخلت الأمم الغربية مرحلة الفائض في كل شيئ، فائض في القوة، فائض في الحرية، فائض في الرخاء.. وتجاوز الحد الأقصى،وأخذت في صرف ذلك الفائض خارج إطار قوانين الطبيعة الإنسانية .. هذه القوانين التي وضعها الله في خلقه تفرض توازنا طبيعيا على كلمخلوقاته، وعلى من خرج عنها، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى العودة القسرية إلى التوازن بانحدار المنحنى، حتى لا يصل إلى الاستعلاءوالخروج عن القوانين التي وضعها الله لخلقه، ويستمر المنحنى في النزول، إلى أن تصلح هذه الأمم ذاتها وتنضبط لقوانين الطبيعة الإنسانيةمرة أخرى، أو سينتهي بها الأمر إلى الأفول والزوال باستمرار نزول المنحنى الحضاري..

 

إن فائض القوة الذي وصلت إليه الأمم الغربية انتقلت بها إلى مستوى فظيع من الغطرسة، وأسلوب وضيع في غزو الشعوب الضعيفة، أوقعهافي جرائم كبيرة ضد الإنسانية، وضد البشرية، خاصة في القرنين 18 و19 والنصف الأول من القرن العشرين، في دول أمريكا الجنوبيةوإفريقيا ودول جنوب شرق آسيا، فعلى جثت سكان هذه المناطق بنت مجدها، وعلى نهب وسرقة خيراتهم أسست قوتها واقتصادها.. فيغفلة حضارية كبرى عاشها سكان المناطق المستعمَرة.. وبعد الدخول العالمي إلى مرحلة وموجة منح الاستقلال العسكري خلال منتصفالقرن العشرين في إفريقيا آسيا (علما أن كل دول أمريكا اللاتينية انتزعت استقلالها خلال القرن 19)، انتقلت العلاقات بين هذه الدول إلىمرحلة الاستغلال الاقتصادي والتبعية السياسية والإلحاق الثقافي عبر اتفاقيات مذلة وطويلة الأمد.. والآن فائض القوة هذا، بعد أن استنفذمهامه الخارجية، وجَّهته القوى الغربية حاليا إلى قلب أوروبا في عملية دمار ذاتي غير معروفة النتائج.. مثلما وقع خلال الحربين العالميتينالسابقتين..

 

ثانيها: التمرد على قوانين الطبيعة والفطرة الإنسانية، فلم يعد يكفي الأمم الغربية التوسع اللامحدود في مجال الحريات الفردية والانفلاتالجنسي، بل قررت الانقلاب الفظيع عن الطبيعة البشرية باستباحة الزواج بين الجنس الواحد (امرأة/امرأة ورجل/رجل) أو شيوع العلاقاتالجنسية بدون زواج، وحق التحول الجنسي، والاعتراف القانوني بذلك، وفرضه على كل شعوب الأرض، وتعميمه على الأطفال ونشره فيالمقررات الدراسية، بل وتهديد كل من عارض أو خالف هذا الخروج المروع عن الفطرة الإنسانية، الأمر الذي سيؤدي بالبشرية – إذا ما استمرالحال على ما هو عليه – إلى تحول رهيب في نوعها وجنسها، وظهور أشكال بشرية هجينة وممسوخة.. مع ما يترتب عن ذلك من انتشارالأمراض الجنسية والاضطرابات النفسية والاختلالات العقلية، واندثار مفهوم الأسرة النووية (المكونة من رجل وامرأة) ..

 

إن المسار “الجنساني” الذي أخذت الأمم الغربية في تعميمه وفرضه على شعوب العالم، هو امتداد لنوع آخر من الغطرسة والطغيانباعتماد آليات اقتصادية وأدوات أممية ترهيبية، عبارة عن عملية ابتزاز غير أخلاقية لفرض أسلوب حياة غير طبيعي، ولا أحد يمكن أن يحددبالتدقيق الجهات التي تختفي وراء هذا المشروع الخطير والفتاك، ولا أهدافه البعيدة الأمد، أما نتائجه المدمرة للبشرية فلن تخطأها العين، إنهذا المشروع باستهداف الطبيعة البشرية السوية يهدف إلى ضرب العنصر البشري على مستوى نوعه وطبيعته وتكاثره.. بحيث يتغير مفهومالرجل والمراة والأسرة، لتأخذ أبعادًا ومفاهيم ونماذج غريبة في تصادم واضح مع قوانين الطبيعة المتوازنة والسليمة..

 

فالطبيعة بطبيعتها تميل نحو التوازن التلقائي، الذي يسمى بقانون التوازن، خاصة على مستوى الحفاظ على عناصرها المكونة لها، وعلىمستوى أسلوب عيشها وتكاثرها واستمرارها، كل ذلك ضمن قانون طبيعي صارم، وأي خروج عن هذا القانون أو التمرد عليه، فإن الطبيعةبما وضع الله فيها من قواعد وقوانين طبيعة تسعى ذاتيا إلى استرجاع وإعادة التوازن تلقائيا، أو أنْ يتدخل الله خالق الكون وواضع قوانينهوضوابطه بقوته التي لا تخضع لقوانين الكون وقواعد الطبيعة لفرض العودة إلى الحق والطبيعة كما فعل بأمم سابقة في حالة استمر البشرفي طغيانه وخروجه عن نواميس الكون الصارمة..

 

إلا أن التوجه الجنساني هذا يلاقي مقاومة حقيقية في العديد من المناطق، ولا سيما في بؤر إنتاجها، ففي مقابل هذا التوجه الليبراليالإباحي الجنساني، أصبحت تظهر قوى محافظة من داخل المجتمع الغربي ذاته تحارب وتناهض هذا المشروع، ورغم أنه ما يزال ضعيفاومحدودا، إلا أنه يقاوم بشراسة أمام غياب واضح لعلماء الطب وعلماء النفس والاجتماع والتربية الذين لم يلجوا بالقوة والجدية المطلوبتينحمأة هذه الحرب الموجة ضد العنصر البشري من أجل تدميره..

 

ثالثها: دخول هذه الأمم في حروب طاحنة مدمرة، فتاريخيا الحروب الغربية عامة، والأوربية خاصة هي حروب في منتهى الوحشية والفتك،هي في حقيقتها لا تحترم لا قوانين الحروب، ولا اتفاقيات ولا معاهدات ولا قواعد، لا تتعرف إلا بلغة الدمار وروائح الموت.. تنشرها في كلأصقاع الأرض بضمير ميت، وما الحربان العالميتان علينا ببعيدتين..

 

لقد دخل العالم الآن بشكل غير معلن في الحرب العالمية الثالثة، تدور رحاها مؤقتا على أرض أوكرانيا، وجزئيا على أرض روسيا الاتحادية،واقتصار الحرب على هذه البقعة من العالم لا يلغي بعدها العالمي، لأن واقع وتموقع الأحلاف المشكلة لهذه الحرب تؤكد هذا البعد.. رغممحاولات القوى العظمى تفادي ذلك، إلا أن كرامة روسيا القيصرية والحلم الأوراسي ماضٍ في اتجاه الدمار الشامل.. خاصة بعد التلميحوالتلويح باستعمال الأسلحة النووية..

 

إن هذه الحرب لن تنتهي دون إعادة تركيب الخريطة العالمية، وترتيب منازل ومراتب القوى العظمى.. خاصة أنه لا يوجد ما يؤشر عن قربنهايتها وانتصار أحدٍ على الآخر، الأمر الذي يزيد من حجم الإنفاق العسكري والاستنزاف المالي، والتأزم الاقتصادي العالمي.. وتعقد الحلالسياسي.. هذه الحرب لن تنتهي بغالب أو مغلوب.. بل ستنتهي بالدمار الشامل.. بحسب تورط كل طرف أو مساند أو داعم في هذهالحرب.. وهنا أخص بالذكر الحلف الروسي البيلاروسي، مقابل الحرف الأمريكي الأوربي.. أما أوكرانيا موطن الحرب، فما هي إلا رقعةجغرافية تؤدي ثمن تجاذبات وتقاطبات ذات بعد وجودي بين روسيا بالحلم الأوراسي وأمريكا بالحلم الليبرالي (سبق أن تطرقت إلى ذلك فيموضوع : حرب روسيا وأوكرانيا؛ بين زبغنيو بريجينسكي وألكسندر دوغين، دور المثقف في توجيه سياسة بلده).

 

هناك قوتان تشاركان في الحرب دون تورط كامل فيها.. الصين إلى جانب روسيا، وتركيا عضو الناتو إلى جانب أوكرانيا.. وهما قوتانصاعدتان، وإن كانت الصين أعظم وأسبق من تركيا، إلا أنهما مستعدان لملء الفراغ الحضاري الذي من المحتمل أن تخلفه الحرب الطاحنةالآن في قلب أوروبا.. طبعا دون أن تجاهل لوجود إيران والهند..

 

(يتبع)
2/ الأمم الأسيوية:
3/ الأمم العربية الإسلامية
خاتمة