الوضوح

شاركها

ثريا الطاهري :  غربة المكان

 غربة المكان

    ثريا الطاهري – المغرب
نمضي في الحياة، وتلهو بنا الايام وتجعلنا ملزمين للقيام بأعمال وممارسات ، قد لاتكون لنا رغبة فيها ، وانما هي من باب ماهو مفروض علينا لاعتبارات وليس لاختيارات . وقد نتخذ قرارات ، ونسير في مسارات دون التفكير فيها، فنغرق في تيه حكايات ماضوية، او اخرى نعيش لحظاتها ، وكل ذلك من حيث لا نحتسب ،ونغدو مشتتين بين أمنيات نرغب فيها، وأخرى تاهت منا وانزلقت من بين اصابعنا كفقاعات صابون دون أن نتلمسها ،أو حتى ان نعي اتحققت فعلا ،او انها جاءت مع هبوب رياح الامل فقط.
وعلى حين غفلة من نفسي ، اجدني محتاجة لهذا النوع من المصارحة مع نفسي اولا ، ومعكم احبتي – بغض النظر عن اماكن تواجدكن / كم – وتأسيسا على محبتي للجميع ها انا أشاطرها معكن/كم . فتملأني افكارا ومشاعرا غالبا ماتحيرني، فتختلط الصور واللحظات في جغرافية ذاكرتي المرهقة لدرجة لم أعد أميز بين الكثير من الأفكار ،بل لا أعرف حتى كيف سأصنفها، وفي أي خانة ستندرج ، وهل هي من باب الغبطة و الرضا والقناعة، أو ان مردها هو الخوف من المجهول، وعدم المقدرة على السير في مسلكياته ؟ وبين الحين والآخر اجالسها نفسي و أحاول إعادة ترميم تلك الشظايا واعطائها نسقا بينا ،قد يكون نافذة تعين على فهمها واستيعابها المنطقي وتمضي الأيام بنا تمخر عباب الزمن فاقرر – بعد التشاور والنقاش مع رفيق الدرب ، وفلذة كبدي – أن أعيد ترتيب حياتي العائلية ، فكانت الخطوة الأولى هي هجرة المدينة / الغول التي احتضنتي بعد أن كانت محط رحال فترة جديدة من حياتي ، واستقبلت مولودي الوحيد ، فوقع الاختيار – بالصدفة – على عاصمة البوغاز وعروس الشمال وحاضرة البحرين (المتوسط والمحيط)، التي اشرعت أبوابها لنا .
وهنا مربط الفرس كيف ساسكن وأعيش في مدينة لااعرف عنها الا مااخدته من دروس التاريخ ، باعتبارها مدينة دولية، إنها المغامرة ولاشك !
لقد اخترنها فجأة وبدون أي تخطيط مسبق ، لنعيش فيها حياة ما بعد التقاعد ، واحمل في دواخلي :
تلك الطفلة التي طالما حلمت بهذه المدينة ” طنجة العالية بسواريها ” – كما ردد المرحوم الحسين السلاوي – والاستاذة التي يا ما تطلعت إلى الاقامة بها بعدما تخرجت من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس ” ظهر المهراز” ،استاذة لمادة الإجتماعيات ، وللصدق اقول لطالما شاركت في الحركة الانتقالية قصد الانتقال إليها، وأنا اعمل – انذاك – بمدينة الناظور ، دون ان يتحقق لي ذلك . واخيرا هاهو القدر يجعل سفينة العمر ترسو بنا على شاطئ طنجة،وتتحقق امنية طالما راودتني في عز شبابي.
استوطنت طنجة ، وبقيت اتنقل مابين مكونات ثالوث جغرافي يمتد من مدينة بركان مسقط الراس ، وتواجد بيت الوالدين، الى البيضاء التي دخلت فيها عش الزوجية ، ومدينة طنجة التي احاول – واستمرار – أن اصنع لي فيها ، وبين أهلها طريقا جديدة في الحياة ، فهي فعلا مدينة ساحرة بكل مافيها ، الشواطيء الجميلة ، والحدائق الغناء ، والفضاءات المريحة ، ناهيك على بيتنا المتواضع والجميل باطلالته على الفضاء الواسع ، وبحكم موقعه فهو قريب من كل مايمكن أن تحتاج إليه ، ناهيك على أن من ساهم في جماليته ،هو ذلك – القديس – كما يحلو لاخي وصديقي ” علال بنور ” إن يسميه ، وهنا أشير على أن كل من زارني ،الا ويحس بدفئ المكان وهدوء موقعه .
لقد آمنت بسحر البداية الجديدة وروعتها ، وتهت في زحمتها، فالناس فيها صامتين يثقلهم الإحساس بالزمن مشغولين بأنفسهم ، ولايكاد يلتفت الواحد إلى الآخر، فاضحيت غريبة أعاني الوحدة ، فانزوي الي قرائتي وكتاباتي ، وابقى سجينة تفكيري الزائد الذي يرهقني ، فيهزني الشوق والحنين لبيتنا في الدارالبيضاء. ولبيت والدي ببركان خاصة بعد غياب الوالد وانتقاله لرحمة الله ، وبقاء والدتي مع معاناتها المرضية.
فأن يشعر الإنسان بالغربة وهو خارج وطنه إحساس طبيعي لامندوحة عنه او فيه ، ولكن ان اشعر بالغربة وأنا بعيدة عن المدينة التي اوتني وانا في عز شبابي بعد ان عشت فيها اكثر من ثلاثين سنة ، فذاك أمر ليس بالهين . وهنا استحضر ماقاله أبو حيان التوحيدي “أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه ” والى اي حد ستنطبق علي هذه المقولة ؟
انها غربة وجمود يطغى علي وينتابني بين الحين والاخر ، فتصير غربتي مزدوجة ، وابقى – عندما يسافر زوجي خارج طنجة – وحيدة إلا من كتبي واوراقي ، فلا أحد يعرفني، فتمتد الغربة لتعشعش في دواخلي وتصبح وحدها جارتي – رغم وجود جارة طيبة تقاسمني الطابق التاسع الذي نسكنه – وصديقتي الوفية، تلازمني ولاتتركني وشأني إلا عندما أعود إلى البيضاء، إلى حرارة الجيران، والاهل والمعارف واصدقاء العمل ، فتختفي هذه الغربة ، وأشعر أني طائر عاد الى عشه
ففي غربتي هذه أشتاق لمهدي ولدي الوحيد ،وإلى زوجته ” راضية ” التي هي بمثابة ابنتي التي لم الدها ، وإلى عصافيره المغردة ، وإلى جيراني، و الى سماع صراخ وضجيج حراس السيارات والذي بمجرد مااطل من الشرفة إلا ويعتذرون قائلين ” سمحي لينا استاذة ” لقد كسبت محبة الجميع ، وكنت محاطة بأناس اخترت وجودهم بامتياز واخترت أن أعيش وسطهم كما أنا بعز وكرامة . وهذه كلها أمور افتقدتها وأنا بمدينة طنجة.
وتبقى الغربة – والحالة هذه – هي المدن التي تسكننا وتستوطننا ،نحملها معنا في ترحالنا الطوعي او القهري، على حد سواء ، فهي لعمري حالة من الوجع وأنت في قلب الوطن.انها غربة مكانية للروح الإجتماعية في غياب العشيرة والأهل والا حباب . ويبقى من الصعب بمكان التفكير في خلق صداقات جديدة ونحن في خريف العمر ،أو على مقربة منه . وقد تكون الرحلة التي يخوضها الواحد منا ، من انجح رحلات الحياة ، ومع ذلك يبقى الشعور بالاغتراب يحاصرنا ، ولا نقوى على إيقاف الشعور به والذي ينتابنا بين الحين والاخر ،او كلما هزنا الحنين الى الماضي بشقيه القريب والبعيد على حد سواء .
حاولت أن أصنع السلام بداخلي وأنا أجيد التجاوز بخفة وأملي بالله كبير في كونه إذا أراد شيئا ، هيأ له أسبابه بشكل قد لا يخطر على البال .واعرف أن الأمور تأخذ مجراها ، وتنحثه في البداية فقط، لتصبح عادية في النهاية، وتأسيسا على ماتقدم وعطفا عليه ، اقول هي أفكار انهكت تفكيري وأدخلتني في بحر التيه ، ومع ذلك أعاند واخد بماقاله توفيق زياد ” قاوم ولا تستسلم ” وكلي أمل في الغد المشرق الوضاء والصحبة الطيبة على شرفات الأمل هنا في مدينة البوغاز.
احبتي انه حوار مع الذات ، حول غربة المكان ،وإعطاء النفس متسعا من القبول وخوض غمار كل النقاشات التاوية والمستضمرة ، التي تنتابني وانا أعيش سكون وتفاصيل هذه المدينة الجميلة والهادئة ، في انتظار حياة اجمل اشرعت الويتها جيئة وذهابا في مخيلتي، ومع الكثير من الذكريات وانا أشرب قهوتي في شرفتي المطلة على طنجة وبحرها،واديمها الصافي ، شرفتي الواسعة التي تعج بالذكريات والحنين إلى كل الغائبين والغالين على قلبي.
وأنا احلق مع النوارس في انتظار كل الجوانب المشرقة والرحبة، التي ترسم خيوطها ومعالمها ممتدة ، مابين مدينة مسقط الرأس، ومنزلينا بكل من البيضاء وطنجة، واسبح بينهما جيئة وذهابا بالبراق كلما احسست بالغربة، اواجتاحني الحنين، وهزني الشوق إلى:
بيتي بالبيضاء وعصافيره المغردة.
مهدي ولدي،الوحيد وزوجته التي هي ابنتي.
جيراني كلهم ، وعلى رأسهم ” مريم” الجارة الأنيقة
والوديعة الرائعة.
وعموما تبقى طنجة محطة من محطات الحياة، اكتشفت فيها أشياء وأناس جعلوني أنسى – تدريجيا – ضغط الغربة وأعيش معهم جمال المكان والزمان، فشكرا لكل هؤلاء الذين واللواتي، ساهموا /هن في اذابة جليد الوحدة، وختاما اقول ما اجمل الغرباء حين يصبحون أصدقائنا بالصدفة.