صنع الله إبراهيم و انتاج المعنى المغاير
بين التاريخي و الذاتي
محمد مفضل – المغرب
يقدم هذا المقال قراءة نقدية لمؤلف الكاتب و الناقد المغربي نور الدين صدوق، اكتمال الدائرة: دراسة في ثلاثية صنع الله إبراهيم(67/برلين 69/1970)الذي صدر عن دار الثقافة الجديدة بالقاهرة، و الذي أضاء فيه جانبا من تجربة الروائي المصري صنع الله إبراهيم من خلال ثلاث روايات و راهن فيه على تداخل الذاتي و الواقعي كإطار للتحليل النقدي، دون التركيز على موضوعة معينة مادام الهدف كما يقول المؤلف:”قول الحقيقة: حقيقة الواقع و حقيقية الأدب” (ص 5). يأتي هذا المؤلف كامتداد من حيث الشكل لثلاثية نقدية سابقة أصدرها الناقد محمود أمين العالم حول ثلاث روايات أخرى: تلك الرائحة (1966)، نجمة أغسطس (1974) و اللجنة (1982).
يؤسس الناقد نور الدين صدوق لمقاربته و تصوره للكتابة الإبداعية لصنع الله إبراهيم في الروايات الثلاث على خمسة مبادئ:
1-الرواية كممارسة تعبيرية و شكل يطابق الواقع المعبر عنه و الرؤية التي تؤطر هذا التعبير، حيث يخالف الروائي التقليدية السائدة و يؤسس للغة روائية جديدة مليئة بالإيحاءات و الارتباطات و الاقتصاد في التعبير، تاركا بياضات و فراغات للقارئ للتفكير فيها و ملئها.
2-التركيز على الذات و الذاكرة كمادة للعمل الروائي و القيم المرتبطة بذلك التعبير كقيم الحرية.
3- ربط التعبير عن الذات بالواقعي و التاريخي و السياسي.
4- الرواية كتعبير عن رؤية، و هي بالذات رؤية الكاتب المثقف الملتزم بقضايا الحرية.
5- خلق متلقي مغاير، ممتلك للثقافة، يشارك في بناء موقف مشترك من السياسة و الجنس و الدين.
حسب تصور الناقد، فانتاج معنى مغاير يمزج بين الذاتي و التاريخي الواقعي يتطلب رؤية و شكل معين و تلقي مناسب يستطيع تفعيل المعنى و المشاركة في الرؤية و الموقف الذي يسعى الكاتب كمثقف ملتزم برسم معالمه في الروايات الثلاث. في رواية 67 التي صدرت سنة 2015 (كتبت في 1968) و التي تمتد احداثها زمنيا لمدة سنة كاملة تسجل لفترة ما قبل الحرب ووضعية الحرب و ما بعد الحرب. ترصد كل مرحلة الجو العام الذي كان يطبعها من خلال تفاعل الشخوص و الوصف، حيث بدأت المرحلة الأولى باحتفال بالسنة الجديدة كان أهم سماته الغياب، غياب أصدقاء عن الفرح لانتفاء الحرية و سيادة القمع و الاعتقال. في المرحلة الثانية التي تسجد حالة الحرب و الهزيمة، كان الاعلام و التضليل الذي مارسه على الشعب موضوعا للوصف و الرصد من خلال متابع مهتم بالوضعية(الراوي). كان الايهام بالنصر و الانكسار الذي تلاه يضع المتلقي أمام مفارقة حقيقة لا علاقة لها بالواقع، واقع الهزيمة الثابتة. كان الوصف مساندا لسرد الهزيمة و الغضب حيث تم الترميز لذلك من خلال التدخين المكثف و إخفاء العينين بنظارات كبيرة و سقوط الأشياء لخلق ايحاءات متطابقة ترصد نفسية الهزيمة و الغضب. سجلت المرحلة الثالثة تأثيرات و مضاعفات الهزيمة على النفسيات الإنسانية.
كان التركيز على الذات و الحالة النفسية يهدف إلى رصد القلق الذي يسم الشخصيات و الذي هو انعكاس لأثر واقع سياسي مهزوم و فاسد على النفسيات. ربط الذاتي بالسياسي و التاريخي من خلال رصد التوتر و القلق و غياب الاستقرار و المعاناة لدى شخصيات معينة هو رصد غير مباشر لمجريات الواقع بتناقضاته. تبقى شخصيات بعينها، كإنصاف، تمثل النضال و التقدمية في مقابل شخصيات أخرى مهووسة بالانحراف الجنسي تحيل على واقع فاسد و متناقض.
سرد أحداث الرواية من خلال يوميات لبطل الرواية هو استكشاف لواقع مطبوع بالفساد و الخيانة و التضليل و الانكسار من خلال الحياة اليومية للبطل و محيطه في المنزل و العمل و الأصدقاء. لأن الذات بؤرة مصغرة لواقع معقد، فإن هذا الواقع يتكشف من خلالها و يعكس بنية المشاعر السائدة و تطور الأحداث و تداعياتها من خلال حياة الشخوص و تفاعلاتها.
تسجل الرواية الثانية، برلين69 (صدرت في 2014)، تفاصيل رحلة لبطل الرواية صادق الحلواني إلى برلين من أجل العمل كمحرر في وكالة أنباء. ربط الروائي بالرحلي، كما يقول الناقد، هو تغيير لطبيعة مقاربة الواقع و الذات، فالواقع الغربي المغاير يكشف عن سلوكيات الذات العربية المثقفة و سهيها لتحقيق حلمها الثقافي. غير أن السخرية المهيمنة على السرد و الوصف تفضح نية الكاتب و توجهه النقدي في الرواية. فالحلم الثقافي لا يتعدى كونه تحقيقا لنزوات جنسية في مجتمع غربي متناقض، يشجع الحرية الجنسية و يقمع ما سواها من الحريات، السياسية بالخصوص في مجتمع فشل في تحقيق الحلم الاشتراكي. تفتح الرحلة نافذة على عالمين مختلفين، مجتمع غربي يحرر الممارسات الفردية من حيث الجنس و التفاعل الاجتماعي و يقمع حرية التعبير و المعارضة، و مجتمع شرقي حاضر في شخص شخصيات عربية منقسم على ذاته، تنخره الصراعات و القمع و الاعتقال. تختلف رواية برلين 69 عن رواية 67 بحسها الساخر الشامل لكل مظاهر الحياة و الثقافة و الفكر. تعتمد السخرية أساسا على تصوير مقلوب و متهكم للحلم الثقافي للذات العربية المهاجرة، و لكل الإحالات الثقافية، حيث يجسد الجنس بمغامراته و انحرافاته آلية لتحقيق القلب من الجدي إلى الهزلي، فحتى رموز الاشتراكية و الثقافة الغربية ككارل ماركس و شارلي شابلن تعرضوا للسخرية اللاذعة من خلال التركيز على تفاصيل جنسية تنزلهم من مقام الشهرة و القيمة إلى مستوى الناس العاديين. حتى التركيز على الصورة و التصوير، كما يؤكد على ذلك الناقد، يطبعه هذا الميل الساخر لتصوير الحلم الثقافي للذات العربية و الحلم الاشتراكي للمجتمع الألماني، حيث الايحاءات الجنسية و التركيز على مفاتن الجسد الأنثوي تحقق القلب الشامل لكل مظاهر الثقافة و الفن و الصحافة كمهنة ووظيفة.
تشكل رواية برلين 69 امتدادا لرواية 67 من خلال رصدها لتناقضات الذات العربية. فصنع الله إبراهيم هو كاتب مثقف واع بتناقضات الواقع و الذات و يحاول في أغلب رواياته توجيه نقد ذاتي لكل المفارقات التي يسجلها في الواقع. السخرية من الذات هي استراتيجية نقدية لفضح كل ما يراه مناقضا للحلم الثقافي الحقيقي و للمشروع القومي التقدمي، و قد يكون تركيزه على الهوس الجنسي لدى بعض الشخصيات و الانقسام داخل بنيات اجتماعية كالأسرة و سيادة مظاهر الخيانة هو تعبير عن فساد أكبر في المنظومة الاجتماعية و النظام السياسي و الذات الجماعية.
تكمل رواية 1970 (صدرت سنة 2019) من زاوية مخالفة حكي الواقعي في علاقته بالذات، لكن هذه المرة بكتابة تكشف عن معالم الذات السياسية كما مثلها جمال عبد الناصر كزعيم، بعد مرور نصف قرن على وفاته. يقول الناقد نور الدين صدوق أن الهدف من اختيار شخصية عبد الناصر كمادة للكتابة “قصدي الغاية منه استكمال التصور الروائي و السياسي عن المرحلة” (ص. 84). كتابة السيرة الذاتية لزعيم سياسي في شكل روائي يجعل من هذه الرواية السيرة مشروع كتابة يفرض على الروائي الالتزام بقول الحقيقة كما تثبتها الوثائق و التدقيق في الظروف و المرجعيات و النوايا. رغم أن صنع الله إبراهيم كان ضحية لسياسة القمع الذي مارسه جمال عبد الناصر على المعارضين، فقد تناول شخصية الزعيم كإرث ثقافي و كنموذج للذات السياسية التي تمثل المرحلة بتقلباتها و انكساراتها. إن كتابة سيرة غيرية هي أصعب من كتابة السيرة الذاتية لأن الاعتماد على التوثيق يتطلب التحري و التدقيق و الكشف و إبراز ما يستحق أن يقال عن تلك المرحلة خصوصا و أن الكتابة جاءت بعد فترة طويلة من التفكير في الموضوع و أخذ المسافة الكافية لتكون الكتابة الروائية أكثر نضجا عن مرحلة حرجة من تاريخ مصر. اعتماد ضمير المخاطب كان رهانا خطابيا يهدف إلى كسر المسافة مع الشخصية و مسايرتها في تفاصيل الحياة اليومية و تقلباتها، كما أن اعتماد الرؤية العليمة تهدف إلى تحقيق نفس الأثر، وكما يقول الناقد، “توحي بأن الراوي العليم يشارك الشخصية الفعل” (ص. 103) و يلومه أحيانا عن ما اعتبره الراوي خذلانا، “خذلت نفسك و خذلتنا. ثم ذهبت، و ذهبت معك مقدرات الأمة و آمالها. إلى حين” (ص. 239).
يمكن تركيز سمات الكتابة الروائية لصنع الله ابراهيم كما تصورها الناقد في النقط التالية:
-الكشف عن تقلبات و تناقضات الذات الإنسانية في مسار الحياة اليومية و ربط النفسيات و السلوكيات الفردية بالتاريخي و بروح المرحلة موضوع الروايات الثلاث.
-اعتماد لغة تقريرية مليئة بالفراغات و الايحاءات، حيث تصف و تسرد الأحداث باقتصاد واضح في التعبير يستدعي تلقيا خاصا قادرا على الكشف عن موضوع تلك الايحاءات و تتبع مسارات المعنى المتنامي في النص.
-توظيف أجناس أخرى تطعم شكل الرواية و تعطيها بعدا ذاتيا و تاريخيا، كالسيرة و كتابة اليوميات و المذكرات. يعطي هذا المزج بعدين أساسين للتجربة الروائية لصنع الله إبراهيم: بعد مباشر يحكي اليومي و الذاتي و الحميمي، و بعد غير مباشر هو امتداد لكل تلك التفاصيل على مستوى اكبر و هو النظام الاجتماعي، السياسي و الثقافي. و تعتبر بذلك روايات صنع الله إبراهيم تشريحا للواقع المصري في أدق تفاصيله و بكل تناقضاته.
-استعمال السخرية التي تميز كل روايات صنع الله إبراهيم و ان بدرجات متفاوتة، حيث تعكس السخرية، التي تتحول إلى سوداء أحيانا، وعيا ممزقا بين أحلام كبيرة وواقع معاند. غير أن ما يثير الانتباه في جماليات السخرية لدى الروائي هو استعماله للجسد و الجنس كتعبير مجازي عن سخرية اجتماعية و سياسية لأن الجسد يعكس ليس فقط ما تحسه الذات و ما يقع داخله، و لكن أيضا ما يقع خارجه من تحكم و قمع و تسلط الذي يكون موضوعه الذات الفردية و الجماعية. تصريف( أو إعادة انتاج، حسب تعبير بورديو) هذا القمع و التسلط على مستوى الذات يتجلى في الكبت الذي يسكن الجسد، و الذي لا يقتصر على الجنس ( و إن كان أوضح مظاهره) بل كل مظاهر الإحباط الذي تصيب الفرد في مناخ تغيب فيه الحريات و تنتفي فيه فرص الإعراب عن الذات سياسيا و اجتماعيا.
يذهب بعض النقاد إلى اعتبار كون الروائي يكتب رواية واحدة و إن تعددت مؤلفاته، و يمكن أن نضيف إلى ذلك أن التنويعات التي يدخلها الروائي في تشكيل أعماله الروائية لا تنفي هذه الوحدة التي هي في الحقيقة وحدة في الرؤيا و التمثل. لذلك عندما نقرأ لصنع الله إبراهيم، نجد نفس الروح الساخرة و النقدية التي تعبر عما تحس به شريحة كبيرة من الناس و خصوصا الذين تعرفوا عن قرب عن رواياته عن طريق القراءة و النقد. يدخل هذا المشروع النقدي للناقد نور الدين صدوق في إطار هذا الاعتراف بالبعد النقدي و الجمالي لكتابات صنع الله إبراهيم الذي يعتبر صرحا روائيا تمكن من تفكيك التناقضات السائدة في المجتمع المصري و منح القارئ العربي تمثيلا هو أقرب لحقيقة الواقع و حقيقة الأدب عما ذهب إلى ذلك الناقد نور الدين صدوق.
الرواية هي تجميع لكل المعارف الإنسانية كما يفهمها الروائي، فيها ما له صلة بالتحليل النفسي و الاجتماعي و التاريخي، و قد كان مؤلف الناقد نور الدين صدوق كشفا للقيمة الجمالية و المعرفية لكتابات هذا الروائي يوازي من حيث القيمة كشف الروائي نفسه عن الواقع المصري في كل أبعاده الأدبية و النفسية و التاريخية.