رواية مرايا الظلال
للشاعر والكاتب عبد الغاني عارف
قراءة عبد الكريم وشاشا/المغرب
وأنا أعيد قراءة هذا العمل أشعر بالانتماء… انتماؤنا لنفس الأمكنة والأفضية وكذلك بعض الشخوص التي وسمت أزيلال ووسمتها أزيلال، نحملها معنا، أينما حللنا وارتحلنا، فهي بداخلنا تصطخب؛ ..
فالأماكن مثل المدن التي نسكنها, والأخرى التي تسكننا, حسب قول خالد بن طوبال في رواية ذاكرة جسد.
أو كما قال محمود درويش:
المدن رائحة:عكا رائحة اليود البحري والبهارات
حيفا رائحة الصنوبر والشراشف,
موسكو رائحة الفودكا على الثلج…
باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة…
الرباط رائحة الحناء و البخور والعسل.
وكل مدينة لا تُعرَف من رائحتها لا يُعوّل على ذكراها.
فالأمكنة هي ذاكرة جماعية أكثر منها ذاكرة أشخاص.ف”أزيلال التي تقاوم جحود التاريخ وقسوة الطبيعة من أجل الاستمرار” ص54″ فهي أيضا حقل من الأماني، لا يستنشق عبيرها الخالص فئة من المحاربين القدامى في حروب العشق والانتماء لمواسم الرجولة المبكرة..” صفحة 56
وهي مصب الأحلام..فأزيلال أيضا : “لم تكن مجرد أمكنة ومنازل من تراب وحجارة وغبار وألوان،هي ذلك كله، وربما هي لا شيء من ذلك إطلاقا، هي بقايا امتداد الزمن الهارب، هي شذو بنكهة الدمع، مخاض أنثى أتعبها انتظار وردة من يد الحبيب. تراتيل برائحة إكليل الجبل. توهج النبض في قلب وليد.” ص58
أنا أولا لست ناقدا أدبيا مسلحا بترسانة من المفاهيم الصارمة لتفكيك النصوص وتفجيرها من الداخل، بل قارئ يشعر أنه يملك ذائقة أدبية، مكنته أن تكون له اختيارات معينة عناوينها العريضة هي:
ديمقراطية السرد وتعددية اللغات
نهاية السارد العليم بكل شيء، نحو سارد يعرف أقل ما تعرفه الشخصيات..
فراغات ومساحات تخييلية، تترك للقارئ فرصة أن يساهم من موقعه في العملية السردية .
الانتصار للسؤال..
لكن النصوص السردية زئبقية، متمردة على كل الخطاطات القبلية والبعدية،
فما الكتابة إذن؟
اختيار لغة خاصة، تأسيس أو خلق عالم، نحت كائنات ورقية بأنساغ موارة بالأحلام والإخفاقات، إن لم تكن ذلك الإبحار والغوص العميق ما بين الفانتازم وبين الواقع، بين الآخر وهذا الآخر نفسه بقلق جمالي دائم ولائب لا يستكين، يستقصي ويتلمس مسارب خفية..
وما مدى تخوم حدود ثقتنا في اعترافات كاتب؟
وهل الكاتب أحيانا يصير بطلا لرواية، وهذا ما حصل تكرارا مع أوسكار وايلد Oscar Wilde والماركيز دو ساد Marquis de Sade ..والتصريح الشهير للكاتب الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير” مدام بوفاري هي أنا ”
وهل حقا كل رواية هي أوتوبرتريه L’autoportrait هذا المفهوم القادم من عالم التشكيل (figure de l’artiste par lui-même)…
لكن عتبات روائية كثيرة تنذر القراء بمثل ما أنذرت به “مرايا الظلال”:
(كل الأسماء الواردة في هذه العتبات هي من محض الوجدان، ولا علاقة لها بالواقع إلا من زاوية الحنين. فإن وجد أي تطابق أو تقارب بينها وبين أسماء أشخاص حقيقيين أو أماكن واقعية، فذلك مجرد صدفة دبـر السارد تفاصيلها دون موافقة مسبقة من صاحب الحكاية الحقيقية )
وهذا ما دفع بالناقد والكاتب Serge Doubrovsky إلى نحت مفهوم autofiction
لكن النصوص السردية، بمنطق الصناديق السحرية التي توجد بداخلها تشبه كتابها وفي نفس الوقت لا تشبههم..
والكتابة التي تدافع عن التخييل تنمي البنية السردية، وتتخلى عن الاستطراد والاسترسال والتداعي الذي يشكل إعاقة حقيقية وموئلا لها. وحتى الذاكرة نفسها حسب العقلانية الكبرى المستمدة من ديكارت هي مقاطعة تابعة للخيال…
مرايا الظلال، بلغة النص هي سيرة الجرح هي محنة الأغصان الهاربة من ظلالها، وهي جسر رابط بين ضفتين ضفة السوق وضفة القشلة والحي الإداري، ضفة الخبز الأسود الصلب وضفة الخبز الأبيض الطري ضفة مقبرة المسلمين في سيدي عبد الله وضفة مقبرة النصارى بتانوت، بين عالمين، يتقوضان تم يهويان، والسارد ذاته يتحول إلى قنطرة من الأحلام والانكسارات والأعطاب، وهو ليس فقط فردا معزولا عزلة داخلية غائرة ، هو جيل بل هو جماعة؛ فبقدر ما نقترب من الفردية، بقدر ما نغوص في قضايا كبرى وجماعات وأمكنة بعــــمق وحيوية وحساسية جديدة..
« لقد عزمت على الإنصات لجراح الذكرى وحكي سيرة الأشواق. »
هذا ما أعلنه السارد لرفيقه الظل في مقطع ” حديث الظل في حضرة الذكرى”
ثم الاستشهاد ب غارسيا ماركيز في روايته عشت لأروي:
(الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه)،
لقد كانت الذاكرة الفردية، وهي ذاكرة معذبة وجريحة – لأنها ذاكرة شاهد – هي الرحم الذي ولد منه التاريخ الشقي، وأعمق قول فلسفي هو ما عبر عنه كتاب (الذاكرة، التاريخ، النسيان) لبول ريكور:
الذات قادرة على التذكر، الإنسان قادر على التذكر وكذلك على النسيان وقبل ذلك كله إنه قادر على الغفران من دون حساب، لكن من غير أن ينسى.
(وبين صمته وإصراري، كانت الرغبة تشتعل للخطو نحو عتبات القول والتأريخ لسيرة نابضة بالأحزان والأحلام.. فكان الفعل .. وكانت الحكاية ..)
فواجب الذاكرة يقوم في جوهره على واجب عدم النسيان..ابتغاء لذاكرة عادلة وهو أمر مهم في التجربة الإنسانية.
مرايا الظلال تذكرة ذهاب وإياب إلى مكانين: فالأماكن علامات استذكار وأنصاب تذكارية (أليلي، السوق،الأبراج الأربعة، إغير المودن، القشلة، تقات، الدوار الجديد، تايدة، حمام المخزن، حمام سيدي عاشور..)، وأحيانا وثائق تقدم دعما إلى الذاكرة التي يخذلها الصراع مع النسيان، بل إنابة صامتة عن الذاكرة “الميتة”، من أجل انتزاع بعض نتف الذكرى من ضراوة الزمان، من “الدفن في النسيان” كما يقول القديس أوغسطين.
يتوزع النص إلى ثلاث مفاصل كبرى، وبلغة النص نفسه إلى ثلاث عتبات:
عتبة الذكرى، عتبة الحلم، عتبة الطريق. وهي بمثابة أعمدة تنهض عليها مرايا الظلال، كما أن النص يبدو غير مغلق فهو مفتوح على عتبات أخرى، فها هو السارد يتوجه إلى القارئ في آخر السطور مناجيا ومناشدا ظله:
« انظر أيها الواقف على ظلال مأساتي، تجد أن الجنون يضرب بجذوره في تربة عشق يزهر في قلبي كلما حلت مواسم الذكرى، وأنصت يا ظلي المتناثر بين الظلال، و يا أنتَ الذي هو أنا، إذ أسألك:
“ترى أي عتبة أفتح الآن جراحها لتوصلني إليك ونقيم في الأفق جسرا تعبره الأحلام.؟ ” ص.220
إن مرايا الظلال على امتداد أحداثها، وفي خضم أزمنتها المتداخلة، وعبر شخوصها صدقي، أمني، حورية، الكابران المهدي، فضيلة،سعاد، فاطمة، منى، حليمة، مديحة، العمراوي،الناصر،إسماعيل، عياشي المسعودي، حمدان، عبد الحق، زنيدر، الصبار، با عمر.. وشخصيات أخرى محلية هامشية وشخصيات وطنية نضالية وشخصيات تراثية.. ثم كذلك الحضور الوجداني والثقافي للآخر المتمثل في شخصية (فرنسواز). وتعدد اللغات واللسان من العربي والفرنسي والأمازيغي والتساؤلات الفلسفية حول الحرية، حول الذاكرة والنسيان، حول المصادفات والمفاجآت التي تغير المصائر إلى وجهات لم تكن معلومة.. والتساؤل عن العلاقة الموجودة بين التذكر والنسيان ..
استطاعت وبمقدرة إبداعية أن تكون وفية لعقدها وبنود ميثاقها الذي عاهدت عليه القراء في مدخلها وكذا رغبة التمرد المتأججة الني نحس بلهيبها، لتحطيم النمطي والسائد، ، وتمكنت فعلا من الخروج والتحول إلى فعل تساؤلي وإلى كتابة دلالية إيحائية حررت النص من الخطاب الصارم وتعبر بعمق عن “احتدام الرغبات البشرية” و”غرائبية المسارات الحياتية لشخوصها” والمساهمة في إنتاج “سرديات عربية مغايرة” وبعبارة بليغة لإدوارد سعيد ” السرد صيغة من صيغ التاريخ “..
فشخصية حورية والكابران المهدي ساهمت بشكل كبير في إطلاق طاقة سردية خلاقة .. فياسين وهو يتأمل صورته في مرايا الظلال تنعكس صورة المهدي مورقا عاشقا أما فضيلة فهي امتداد رمزي لحورية التي استطاعت أن تصبح تمثالا لكل عشاق الحرية والعدالة.. فهي محنة البحث عن الظل الآخر.. فقبل ياسين كان “الأستاذ المحجوب أيت غنو”
فغلبة الشخصيات النسائية في النص يعطيها بحق عنوان سيرة العشق والجنون، وأيضا يعزز من رمزيتها، وكذلك بعض الأحداث الغرائبية بعبقات أسطورية (سفر عمره 20 سنة دام يوما واحدا، ومشاهد اللقاءات مع المهدي واختفاء هذا الأخير وسر ظهور حورية، التي ترتدي لباسا أحمر اللون. وفي يدها اليسرى منديل أحمر قرب شجيرة الدفلى ذات الزهور الحمراء وأوراق الصفصافات الباسقة …) إيحاءات في الأسماء وفي الألوان وفي الروائح والأمكنة وفي إيقاعات اللغة الملحمية.. سيرة الرحيل والأحزان والأحلام.. والذكرى. .. كل ذلك موشى بنبرة طرية، ونداوة شعرية متوهجة…( وأنا أقتفي أثر الأشواق في ساحات المدن البعيدة، وأرخي أشرعة الإبحار نحو مرافئ الحنين، وهي ذي المتاهات الفاصلة بين حلم وآخر تؤرخ لانكساراتي. تتسع دائرة الضياع لتلقي بحلمي الشريد في أتون وجع سرمدي، فلا أملك بابا للخلاص سوى أوهام الذكرى وأحلام تعطلت نحو منابعها الجسور) ..
فالكاتب دائما عند صدور عمله يسكنه هاجس مريب، وهو ما عبر عنه نيكولاي أوستروفسكي، عندما صدر له الجزء الأول من روايته “كيف سقينا الفولاذ” من أن يكون عمله إلا “تاريخ حياة واحدة”
لكن ياسين الشخصية المحورية، والحلقة المركزية للرواية، في سفره وفي حله وترحاله وعبر عتباته كشف لنا عن تاريخ من العلاقات الاجتماعية والمآسي العامة والفردية فهو كغيره من الأبطال الملحميين يحمل قلبا فتيا عامرا بقوة وحماس للنضال وتطلع أصيل إلى الحرية ( الحياة الطلابية في وجدة، سنوات النضال والعمل في الدار البيضاء والرباط، الانشقاق التنظيمي الذي وقع في الحزب وما رافقه من تمزقات وصراعات، واعتقالات والاختطافات والخيانات، الوضعية النقابية، التحولات والشروخات التي اعترت التصورات، وصعود “العلنية الإسلامية”…)
مرايا الظلال هي فعلا سيرة الذات والوطن، ، إنها عودة عبر كوة الزمن إلى الطفولة ومرتعها واستحضار كل ما وشم الروح من عنف اجتماعي وثقافي و.. مكاني.. وسيرة جيل ظل صوته طويلا غائبا مغيبا ومحاصرا من جميع الجهات، من قبل رفاق الأمس قبل الخصوم والأعداء…
عبد الكريم وشاشا