الوضوح

شاركها

 الفقيد  عبد الغني بوستة السرايري:الأصولية أو الديمقراطية في المغرب؟

 

الأصولية أو الديمقراطية في المغرب؟

 المحور الأول :

 

 الفقيد  عبد الغني بوستة السرايري

 

ترجمة: عبد الكريم وشاشا

 

مجلة هيرودوت[i]  – العدد 77-الفصل 4-1995

 

 

هيرودوت بالفرنسية( Hérodothe) هي مجلة علمية محكمة فرنسية تأسست في 1976 من قبل إيف لاكوست وتصدر كل ثلاثة أشهر، وهي مختصة في الجيوسياسية والجغرافيا.
الأعداد الأولى من هذه المجلة كانت تحمل العنوان الثانوي «استراتيجيات، جغرافيا، إيديولوجيات»، ثم ابتداءا من نهاية 1982، تبنت المجلة عنوانا ثانويا جديدا وهو “مجلة الجغرافيا والجيوسياسة” (المترجم)

 

من هو عبد الغني بوستة سرايري؟

 

عبد الغني بوستة السرايري (مراكش، المملكة المغربية، 18 فبراير 1949 ـ باريس، فرنسا، 21 سبتمبر 1998) كان سياسيا مغربيا معارضا، من مؤسسي حركة الاختيار الثوري. عاش في المنفى بفرنسا لما يربو على عشرين عامًا لمناهضته للنظام السياسي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني ، ومناداته بالديمقراطية الحقيقية، العدالة الاجتماعية و بفصل السلطات. دُفن في مقبرة بيرلاشيز بباريس.

 

ولد بوستة في مراكش في 18 فبراير 1949، وحصل على البكالوريا العلمية سنة 1965، ثم التحق بالمدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط، وشارك أثناء دراسته بها في العديد من الأنشطة السياسية الطلابية التي شهدتها الجامعة المغربية، وانضم إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

 

في العشرين من عمره، تخرج مهندسًا في الإلكترونيات، ثم أوفد إلى مدينة غرينوبل الفرنسية لمتابعة دراسته والحصول على دبلوم الدراسات المعمقة وشهادة تخصص في الأوتوماتيك بمعهد البوليتكنيك في غرينوبل

 

في مطلع السبعينيات، انضم بوستة إلى التيار الشعبوي الذي كان يقوده محمد البصري (المعروف بالفقيه)، وظل مقربًا منه حتى افترقت بهما السبل في مطلع الثمانينيات.[3] وبعد أن تخرج مهندسًا في الأوتوماتك الصناعي، عاد إلى المغرب في يوليو 1972، فعُين ـ وهو في الثالثة والعشرين من عمره ـ مديرًا للسدود في الجنوب المغربي، غير أن أحداث مارس 1973، التي كان الفقيه البصري المسؤول الرئيسي عنها، دفعته إلى الانضمام للعمل السري ثم مغادرة البلاد والاستقرار في المنفى بباريس في سبتمبر 1974.



الأصولية أو الديمقراطية في المغرب:

 

عاصفة الأصولية على أبواب المغرب، تضرب بقوة غير مألوفة في الجزائر كما أنها تنتشر في تونس، ومصر وفي كثير من البلدان الأخرى. ماذا عن المغرب؟ هل توجد حركة أصولية مهيكلة ومنظمة؟  وما هو الدعم الذي تحظى به وتستفيد منه وما هي العوامل والمحددات الاجتماعية والسياسية التي تساعد في ظهورها وانتشارها، وربما حتى في تفوقها.

لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، من الضرورة بمكان الوقوف بعض الشيء عند الظروف الاقتصادية والاجتماعية، لاقتفاء أثر نشأة الحركة الإسلامية ووضعيتها الحالية ومساءلة الديمقراطية في المغرب (أليس غياب الديمقراطية والاضطرابات الاجتماعية هي تربة خصبة لكل تطرف؟)   

 

التربة الاجتماعية –الاقتصادية

 

بحكم خضوعه للاستعمار الجديد يعاني الاقتصاد المغربي من تفكك قطاعاته الحيوية الأساسية؛ فالعلاقات التي تربط هذه الأخيرة مع الخارج هي أكثر متانة من تلك الموجودة بينها وبين الأسواق الداخلية، وينطبق ذلك على القطاعات المهيكلة المجهزة والعصرية الموجهة أساسا للتصدير مثل قطاع الفلاحة (الحمضيات، الطماطم، الفواكه، الزهور والنباتات…) وقطاع النسيج، والجلد، وإنتاج المعادن…

 

فرغم تخلي هذه القطاعات التصديرية عن الأسواق الداخلية، فإنها لا تغطي إلا 50 % من الواردات، لهذا ضاعف العجز الدائم للميزان الخارجي من ديون خارجية والتي بلغت 75 % من الإنتاج الداخلي الخام.

         

وبقي النمو الاقتصادي (2.3 في المتوسط سنويا) ضعيفا أمام نمو ديموغرافي سريع ومرتفع (2.7 % سنويا) أما ضعف القطاع الصناعي في مجمله جعل الاقتصاد المغربي يرتكز أساسا على الفلاحة. ونتيجة لذلك لازال يعتمد إلى حد كبير على التساقطات المطرية. إلى جانب ذلك أن النمو المتوقع تحقيقه لسنة 1995 سيكون سلبيا بسبب موجة الجفاف التي يشهدها موسم هذه السنة.

 

منذ بداية سنوات الثمانينيات، كل المخططات التنموية تم التخلي عنها لصالح سياسة إعادة التقويم الهيكلي، وقضت عمليات الخوصصة على الخدمات العمومية وهي فرصة كي تستحوذ أقلية محظوظة على الثروات الوطنية المتراكمة منذ الاستقلال، وهذه الأقلية نظمت نفسها داخل شركات ومجموعات كبرى أخطبوطية (بينها مجموعة أونا ONA) التي تعمل على إدارة مصالحها ومصالح شركائها الأجانب. فالهوة تزداد اتساعا بين أغنياء يزدادون غنى وفقراء يزدادون فقرا. والنظام الضريبي يفاقم من هذه الوضعية وهو يثقل بشكل مباشر كاهل فئة الأجراء رغم قلة عددها، في نفس الوقت الذي يعفي فيه أصحاب الثروات الكبيرة.

 

ويبقى مجموع السكان النشيطين ضعيفا (30 % من السكان) ومعدل البطالة السافرة والمقنعة يقارب 40 % من الساكنة النشيطة. وحده التضامن العائلي يسد الثغرات ويسمح بالحفاظ على التماسك والتوازنات الاجتماعية البالغة الهشاشة (30 % من الساكنة النشيطة تقوم بإعالة وتوفير احتياجات 70 %) فالفقر هو ليس كلمة خالية من المعنى: 9 ملايين من الأشخاص (من أصل 27 رسميا) ينفقون أقل من 583 درهم شهريا. والخدمات العمومية في تراجع مستمر ولا تلبي كل الاحتياجات. أما النظام التعليمي فهو مفكك وارتجالي بفعل سلسلة من الإصلاحات المغامرة وغير المجدية، وغير ملائم لسوق شغل هو نفسه مكتظ ومنهك. وفي سنة 1994 وصل عدد أصحاب الشواهد العليا المعطلون إلى 110.000؛ و50 % فقط من الأطفال المسجلين من ذوي السن القانوني للتمدرس… إذن فكل طفل من طفلين هو بلا تعليم ومحكوم عليه بالأمية.

 

وبعيدا عن لغة الأرقام، يبقى المشهد الأكثر بروزا هو عالم الفقر المطلق وعالم الثراء الفاحش جنبا إلى جنب مكشوفا في واضحة النهار، صورة صارخة لهرمية أساسها الظلم ومراكمة الثروات تهدد بالانفجار في كل لحظة.

 

ومع ذلك، فإن الإمكانيات الاقتصادية، والثروات الطبيعية، والكفاءات البشرية للتأطير والإنتاج، وروح المبادرة والمقاولة والعمل الجاد والدؤوب لا تنقص هذا البلد. لكن كل هذه الموارد المادية والبشرية هي رهينة لقيود سياسية قروسطوية، تعاني من انتقال ديمقراطي عالق.

 

فالتطور والإقلاع الاقتصادي، وتنمية الموارد، والمقاولة الحرة، واستثمار الرأسمال الوطني، والسلم والتضامن الاجتماعيين… لا يتماشى مع غياب دولة الحق والقانون، وعدم المساواة أمام القضاء، والظلم والجور، والتعسف واستغلال النفوذ، والاستبداد، وعدم فصل السلط، والتبعية البنيوية، والممارسات الفيودالية في المجال الاقتصادي، هي بنية فوقية إيديولوجية وثقافية تتسم بها بشدة الذهنية الفيودالية. وعلى النقيض من ذلك، هذه هي كلها تقريبا العناصر التي تعد التربة الخصبة لنشأة الأصولية.

 

العوامل المؤثرة

 

في الواقع، إن الأصولية الدينية والإثنية والسياسية لا تولد من فراغ، فهي تتطور سواء في الماضي أو في الحاضر الراهن في ظل الأزمات، وبفعل تداخل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية؛ وفي حالة المغرب، فإن الأزمة الراهنة المذكورة أعلاه بإيجاز شكلت أرضية خصبة لصعود الأصولية. ففي غياب دولة الحق والقانون، قامت أقلية هناك، واستولت بالقوة والتعسف والحيف على كل الإمكانات التي يتوفر عليها البلد من أجل خدمة مصالحها الخاصة الضيقة مستعرضة نمط حياتها الفاحش الثراء في وضح النهار، وولدت بذلك شعور الحرمان والإحباط لدى الغالبية المهمشة الذي بدأ يتفاقم يوما بعد يوم.

 

إن لعبة الديمقراطية المغشوشة أقفلت كل أبواب الحلول السياسية، وجمعت كل السلطات في نفس الأيدي وتأبيدها.

 

فالهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مقرونة بهيمنة إيديولوجية وثقافية، تقوم الدعاية الرسمية بقصفها كل يوم على رؤوس “الرعايا” تمزج فيها بين اليأس والخيبة المادية والاغتراب والإحباط النفسي والأخلاقي؛ فقد انتشر الفساد وتغلغل في كل المناحي والجوانب من الخدمات الإدارية البسيطة حتى طال وارتفع إلى نظام الحكم، كل هذا عزز وعمق من هذا الشعور، وكذلك مظاهر التردي الاجتماعي والتراجع الممنهج والمنظم للقيم التقليدية للكرامة والعدالة والإنصاف والصدق والشرف…

 

إن العوامل الثقافية وأساسا سؤال الهوية والثقافة الوطنية تنضاف وتتآلف مع العوامل والمحددات الاقتصادية والاجتماعية، السياسية والأخلاقية. فالتبعية، وهيمنة الاستعمار الجديد، والتقليد الأعمى للبورجوازية الغربية تظهر كأنها تهديد يستهدف الهوية الوطنية، ووسائل الإعلام الغربية السمعية البصرية تتدفق عبر الفضائيات المنتشرة بين الساكنة الأكثر حرمانا تعمق مشاعر الإحباط بنقلها لعوالم حالمة لا يمكن الوصول إليها.

 

إن مجموع هذه الظواهر في تزايد مستمر في عالم سريع المتغيرات يهتز تحت أزمة حضارية حقيقية: عولمة متوحشة غير مقيدة، النظام العالمي الجديد، انهيار المعسكر الاشتراكي، الثورة التقنية والعلمية، تغيير عميق في أساليب الإنتاج وفي العلاقات الاجتماعية، انهيار القيم، وغياب في الأفق لأي ولادة لقيم جديدة… الخ

 

باختصار، فإن التهميش الاقتصادي والاجتماعي، والتبعية البنيوية للغرب، والهيمنة الثقافية، وأزمة الهوية الوطنية، بالإضافة لغياب أية آفاق فاقم من مشاعر الإحباط المادي والمعنوي لدى الفئات والشرائح المهمشة الأكثر حرمانا وولد رد فعل الانكفاء على الذات و”العودة إلى الماضي” بحثا عن الذات والهوية المفقودة.. فحلول الحداثة والعقلانية أدت إلى الباب المسدود والفشل والانهيار الاجتماعي، والحل يكمن في العودة إلى الوراء، لقرون مضت، من أجل إعادة بناء نماذج تاريخية بديلة.

 

فهذه الظاهرة الغير العقلانية والرجعية يمكن أن تسبب في المغرب كما في بلدان أخرى قلاقل اجتماعية خطيرة وحتى انفجارات مجتمعية يصعب السيطرة عليها. فالفكرة الواسعة الانتشار والتي مفادها بأن دولة المغرب قلعة محصنة ضد الحركات الأصولية هي فكرة سطحية وخاطئة؛ فالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تسبب في صعود الأصولية موجودة بقوة في المغرب، فالحركة الإسلامية موجودة كقوة محتملة كامنة ذات ملامح معروفة، لكنها تترقب موعدها والشروط المواتية للتعبير عن كل حقيقتها ومحاولة فرض نفسها بكل الوسائل الممكنة.

 

نشأة الحركة الإسلامية

 

فالمغرب مثله مثل جميع الدول العربية – الإسلامية، عبر تاريخه اخترقته جميع المذاهب والنحل والفرق الإسلامية: السنة والشيعة والخوارج… قبل أن يفرض المذهب السني نفسه كمذهب رسمي. فخلال الحقبة الاستعمارية، استمرت الزوايا الدينية بالاحتفاظ بكل الوظائف التقليدية لمختلف التيارات والفرق الإسلامية، وقد لعبت دورا مهما في النضال الوطني من أجل الاستقلال، سواء لصالح الحركة الوطنية أو لصالح الاستعمار. فعلى سبيل المثال أصدرت الزاوية الدرقاوية فتوى مناهضة لزعيم الثورة الريفية عبد الكريم الخطابي تعتبره ملحدا ومندسا شيوعيا. أما الزاوية الكتانية فقد قدمت دعما فعالا للسياسة الاستعمارية وللمارشال ليوطي باسم التعاليم الإسلامية.

 

لكن صعود الحركة الوطنية في شكلها الحداثي وقيامها في نفس الوقت بدمج قيم الدين الإسلامي كقيم إنسانية في التسامح والعدالة ساهم سريعا في تهميش دور الزوايا. الحصول على “الاستقلال” وهيمنة الحركة الوطنية والتقدمية كقوة سياسية رئيسية أدى إلى تراجع بل اختفاء جميع تعبيرات الحركة الإسلامية، بذلك بقي المغرب في منأى عن الحركات الأصولية التي عانى منها الشرق الأوسط.

 

وفي سنة 1965، على إثر إعدام سيد قطب أحد القيادات البارزة ل”الإخوان المسلمين” في مصر، وحملة القمع التي قادها عبد الناصر ضد هذه المنظمة، هرب العديد من أطرها ورموزها ووجدوا في المغرب ملجأ لهم، على رأسهم الخطيب والواعظ الإسلامي الشهير عبد الرحيم عبد البر، وفي نفس الفترة التحق أيضا بعض الإخوان المسلمون من أصول سورية. وبحكم انتمائهم لقطاع التعليم قاموا باستقطاب مؤسس الحركة الإسلامية في المغرب: عبد الكريم مطيع الحمداوي مفتش في التعليم.

 

فبعد عودته من جولة في الشرق الأوسط حيث ربط علاقات مع جماعات إسلامية، أنشأ مطيع رفقة عدد من الأعضاء المؤسسين سنة 1969 “حركة الشبيبة الإسلامية”، كجمعية معترف بها رسميا بنواة صلبة من الطلبة والأساتذة. وتم تزكيتها من قبل منظمات وجماعات الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وباكستان سنة 1972. ولعبت المجلة الشهرية “الشهاب” الصادرة في بيروت دورا مهما في التعريف بالحركة وبمؤسسها وتأهيله إلى مرتبة “المرشد العام للحركة الإسلامية في المغرب العربي”. وعبر “المؤتمر الدولي للشباب والدعوة الإسلامية” الذي انعقد في السنة نفسها تحت رعاية المملكة العربية السعودية عن دعمه المالي والمعنوي لتقوية “حركة الشبيبة الإسلامية” في المغرب. واعتمدت الحركة في أيديولوجيتها وقاعدتها الفكرية كتابات القادة البارزين للإخوان المسلمين وعلى رأسهم سيد قطب، وعلى الأخص الكتابين: معالم في الطريق، وكتاب “الإسلام.. فكرة وحركة وانقلاب” والحركة تترأسها قيادة تتكون من عشرة أشخاص بقيادة المرشد العام الذي لا يمكن أن تخضع توجيهاته لأية مناقشة، جزء من هذه قيادة يدير شؤون “الجهاز الخاص السري” في حين يدير الباقي المنظمة الجماهيرية، يتم استقطاب الأعضاء الجدد وتدريبهم وتنظيمهم في خلايا تجتمع كل أسبوع تحت إمرة “أمير”. تتيح الرحلات والخرجات التي تنظمها الحركة في جميع مناطق البلاد عقد صلات مع الشباب أساسا.

 

فالرحلات المنظمة على الشواطئ أو الجبال هي بمثابة  فضاءات لتلقين إيديولوجية الحركة وجامعات صيفية لها.فتقوية الدروس والدعم المدرسي والاجتماعي المتعدد الأوجه هي وسائل وآليات لاستقطاب الشرائح والفئات المحرومة وتوسيع صفوف الحركة.

 

الاعتماد على العنف

 

بعد فترة أولية من العمل السري (1969 – 1972)، وفي ظل الأزمة التي تعرفها الحركة الديمقراطية ككل، بدأت المنظمة الإسلامية مرحلة التنفيذ (1972-1975) من أجل فرض نفسها على الساحة السياسية، مستهلة ذلك بكتابة شعارات إسلامية على الجدران داعية إلى محاربة الشيوعية والحركة التقدمية مثل : “الإسلام يحارب الشيوعية” “الجهاد ضد الملحدين”، ثم القيام بتوزيع المنشورات بنفس المحتوى، وفي نفس الوقت بدأت تعرف المنظمة توسعا في صفوف العمال والحرفيين والطلبة، وبعد فترة وجيزة من ذلك شرعت في تنفيذ اعتداءات وإرهاب مناضلين ونشطاء يساريين في ثانويات مدينة الدار البيضاء وداخل الأحياء الشعبية. بالأسلحة البيضاء والهراوات والقضبان الحديدية أسقطت العديد من الأرواح في صفوف المناضلين الديمقراطيين. وفي نفس الفترة تماما تعرضت الحركة اليسارية لحملة قمع شديدة: تنفيذ الحكم بالإعدام في العديد من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية واعتقال المئات من مناضليه وقمع مناضلي اليسار الجذري والمحاكمات السياسية الكبرى  في كل من القنيطرة (1973) ثم محاكمة الدار البيضاء (1978)

 

وبموازاة مع قمع السلطة هذا،وصلت الأعمال الإرهابية التي قام بها الإسلاميون ذروتها بمحاولة اغتيال الأستاذ ميناوي عبد الرحيم في الدار البيضاء عضو في حزب التقدم والاشتراكية، ثم جريمة اغتيال القائد االكبير للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عمر بنجلون يوم 18 دجنبر 1975.

 

أثارت هذه الأحداث موجة من الاحتجاج والتعاطف مع الحركة الديمقراطية المغربية، فالحكم الذي رأى في حركة الشبيبة الإسلامية حليفا في مواجهة الحركة التقدمية أزعجته هذه الأعمال وصمم على التحكم ب”الشبيبة الإسلامية” بشكل أفضل، لكن دون التفريط فيها أو إزالتها، لذا فقد قام المرشد العام بتعيين قيادة سرية للحركة وغادر البلاد ليحط الرحال في المملكة العربية السعودية ثم الكويت فإيران وليبيا وفرنسا، قبل أن يستقر في الجزائر ابتداء من 1984.

 

 

جماعات ومنظمات متعددة

 

 

بعد مرحلة النمو والتوسع (1972-1975) بفضل الإقبال الكثيف للشباب المتطرف وللدعم المادي السخي للمملكة العربية السعودية، دخلت حركة الشبيبة الإسلامية فترة التراجع والانكماش والصراعات الداخلية، وكان أول هذه الاختلافات معارضة قيادة الداخل للمرشد العام حول مسألة “الزعامة”، فقد استمر المرشد العام من خارج البلاد في الدعوة إلى الجهاد بتنسيق مباشر مع بعض العناصر في الداخل المبايعة له، كما أنه ندد علانية بالقيادة في الداخل ووصمها بالانحراف عن خط الجماعة وبالمهادنة؛ وقد تم وضع قنبلة من صنع يدوي في سيارة أحد الأعضاء (لم تنفجر)، وتعرض آخر لضرب مبرح حتى الموت.

 

بدأت العديد من الأسئلة تتناسل داخل الحركة: لماذا تم قتل مسلمين مثل عمر بنجلون؟  لماذا يتم استخدام العنف ضد أعضاء ومنتمين للحركة نفسها؟  من المستفيد حقا من هذه الجرائم؟ وما هو الدور الذي تلعبه المملكة العربية السعودية؟ وأين هي أموال المنظمة؟  ظهر أول تيار انشق عن الحركة باسم “الجماعة من أجل الحقيقة”[iii] تلتها تيارات أخرى من بينها “حركة المجاهدين المغاربة” تأسست في بلجيكا تدعو إلى العنف. مما دفع بالمرشد العام ردا على ذلك بربط الاتصال مع قواعد المنظمة وتأسيس “كتائب مسلحة ” أطلق عليها ” فصيل الجهاد” وكان من بين مهامها “تأديب” المنشقين واعتماد توجه راديكالي للمنظمة. وتناسلت جماعات جهادية عديدة متطرفة وبأسماء ونعوت مختلفة…

 

وخلال نفس الفترة ظهرت منظمة ذات مصادر وتوجهات مختلفة، يتعلق الأمر بجماعة “العدل والإحسان” بقيادة مرشدها الكاريزمي عبد السلام ياسين الذي يخضع حاليا للإقامة الجبرية، والمشهور بكتبه المثيرة للجدل “الإسلام بين الدعوة والدولة” و”الإسلام غدا” ثم رسالة “الإسلام أو الطوفان” سنة 1974 التي سجن بسببها.

 

بعد أن تم إطلاق سراحه من السجن سنة 1976 أنشأ مجلة “الجماعة”، ثم أسس سنة 1978 جمعية إحسانية معروفة بشعارها “العدل والإحسان”. في سنة 1983 أصدرت الجماعة جريدة سياسية سمتها “الصبح” مطالبة بأن تصبح حزبا معترفا به في إطار الدستور والقانون. قامت الصحيفة باتباع خط تحريري رسمي هو مواجهة الأحزاب السياسية الديمقراطية والهجوم على “الملحدين”، بينما اعتمدت موقف التوفيق والنصيحة اتجاه الحكم. وتم تشخيص الأزمة الاجتماعية بانهيار القيم وتفسخ الأخلاق، وأن الحل هو العودة إلى الإسلام وتطبيق الشريعة داعيا إلى الجهاد، الذي تعتبره جهاد مع الأفكار وهو أعلى من معركة السلاح فالجماعة ترفض العنف بين المسلمين. فياسين يشرح بأن هدف جماعته هو العودة إلى الله بالوسائل السلمية والقانونية وفي إطار التعددية والديمقراطية.

 

استغلت جماعة العدل والإحسان أزمة الانشقاقات والصراعات الداخلية التي تعيشها حركة الشبيبة الإسلامية، وعملت على توسيع صفوفها وتجنيد العديد من الأطر السياسية الإسلامية، هذه الأخيرة لعبت دورا هاما في الاستقطاب وتوسيع القاعدة وتأسيس الخلايا في جميع أنحاء البلاد.

 

  • كتاب “الإسلام. فكرة وحركة وانقلاب” للكاتب اللبناني، الأستاذ فتحي يكن، يعتبر من بين أهم المرجعيات الفكرية لدى الحركة الإسلامية، وعلى وجه الخصوص الإخوان المسلمون؛ (المترجم)
  • أما محاكمة مراكش 1971 فقد سبقت المرحلة التي يتحدث عنها الكاتب (1972-1975) (المترجم)
  • أول المنشقين أطلقوا على أنفسهم “القطبيون” نسبة إلى السيد قطب ثم تيار الاختيار الإسلامي ثم حركة المجاهدين في المغرب التي أسسها عبد العزيز النعماني ثم تفريخ العديد من الحركات مثل الجماعة الاسلاميةالمغربية المقاتلة ومنظمة الجهاد… ثم الحركة من أجل الأمة وهي محاولة اندماجية لبعض المكونات والتيارات السابقة ثم بعدها جاءت وبعد مراجعات عميقة البديل الحضاري…لكن يبقى أهم تيار انشق عن الشبيبة الإسلامية هو الجماعة الإسلامية التي تحولت إلى حركة الإصلاح والتجديد … (المترجم)
  • اتهم بسببها الراحل عبد السلام ياسين بالجنون وقضى على إثرها ثلاث سنوات وستة أشهر محتجزاً في مستشفى للأمراض العقلية.

 

ينبع المحور الثاني : استراتيجية التراجع و لعبة الديمقراطية و صعود الاصولية