الجسد
فدوى الزياني/ المغرب
’’هذا النص ليس جزء من روايتي التي ليست قادمة ولا جزء من نص أدبيّ ولا شعري ، لكنه جزء من ذاكرتي المرة التي أحاول مضغها دون فائدة’’
لم أعرف شيئا عن الجسد سوى ماقرأته في الكتب ولم يكن في بيتنا مكتبة سوى تلك الكراطين التي ورّثتها لنفسي بعد سفر إخوتي لإكمال تعليمهم، الكتب هي من علمتني ماذا يعنيه “جسد”.
أما أمي وأختي فكانتا منهمكتين في طاحونة الأشغال اليومية التي جردتهما من الغناء ثمّ من الكلام شيئا فشيئا..
كنت في الثالثة عشرة تماما، وكان يوما عصيّا على النسيان غيّر إدراكي للأشياء التي بدأت تبرز على جسدي..
بعد ذلك اليوم بدأت أنفر من كل هذه المنحنيات، انعطافة الخصر، النتوؤان البارزان على صدري اللذان جعلاني أبدو أكبر من عمري بكثير، الشعر الخفيف الذي بدأ يظلل الأماكن الخفية من جسدي، كل شيء لم أصنعه ولم تكن لي يد في نموّه أصبح مدعاة للخوف والتوجس والإخفاء.
بدأت أدرك أن هناك فرقا شاسعا بيني وبين أخي الذي يكبرني بأربع سنوات فالخط الذي نما على شاربه مثل سرب من النمل مدعاة لفخر أمي واعتزاز أبي، بينما هذان النتوءان يلزم أن أخفيهما عن العالم وبكل طريقة ممكنة، وبحكم العادات القديمة يجب أن أحدّدهما بقطعة من الملح الحيّ وأرميها في بئر المسجد القديمة حتى لا يكبرا ويصبحا كرمانتين تغريان بالقطاف، لكن الحدبة التي بدأت تنمو على ظهري كلما حاولت إخفاءهما لم تزعج أحدا..
الفتاة التى بدأت تطول سيقانها وينحني ظهرها كناقة ليس منظرا مزعجا بل دليلا على حسن الخلق وخجل يؤاخيه التأدب..
أما خارج العائلة ما إن يبدأ نهدا فتاة بالظهور حتى يصبح الأمر كموسم مفتوح لجني التفاح، الكل يستبيح النظر وتغويه الشجرة التي تحمل فاكهة أبكر وأكبر، بالنسبة لي لم أكن أعرف ماهو الحجم المطلوب الذي سيتقبلني به العالم، حاولت سحق فاكهتي تحت وشاح قديم لأمي ثم وجدت حزاما أبيض يخصّ أخي الكبير حين كان يتدرب في زمن سابق على رياضة الكاراتيه، حزام خشن وطويل جدا كنت ألفّه من بداية قفصي الصدري حتى أعلاه لأمسك زمام هذين الشيئين القبيحين ولا أدعهما يتمددان ويكبران وينطلقان إلى الخارج ليثيرا الرعب أو الرغبة في عيون الآخرين.
في غرفة أمي العشبية اللون توجد سجادة تركية نسج عليها رسمة غزال بعيون بنية واسعة ،خلفه غابة تكمل اخضرار الغرفة، فوق رأسه تماما بقعة دائرية مثل شمس داكنة لكنها لم تكن سوى أثرا لبداية احتراق سببه المصباح الكهربائي.
كثيرا ما راقبت عيون الغزال وأنا أتابع حركة بؤبؤيه المريبين وهما يلاحقاني أينما تحركت، وما كنت لأملّ أبدا من هذه المناظرة البصرية لولا أنه في هذا اليوم بالذات كانت هناك عينان أحبهما تشدان انتباهي إليهما أكثر، عينا أخي اللتان تشعان حياة وسعادة وهو يأخذ رأيي في سرواله الكاكي الجديد، سروال جديد في ذلك الزمن وفي ذلك الوقت من السنة يعتبر كهدية من هدايا سانتا كلوز التي لا نعرف عنها سوى ما نراه في الأفلام الفرنسية، هدية تستحق الاحتفال. ولأن أخي كان طالبا في الإعدادي فقد كان له حظ العيد مرتين، مشى أمامي يتباهى بسرواله الكاكي بثنيته المكوية بعناية شديدة وبجيبيه الواسعين، يدخل يديه بشكل يشبه حركة شارلي شابلن وهو يجرب اتساع جيبيه ويلتفت يمينا ويسارا بشكل مضحك أمام المرآة، وكنت جالسة على سرير أمي بوجه مبتسم ويداي على المرتبة مبدية إعجابي ومشاركة أخي فرحه الطفولي بالسروال الجديد ،ومخفية في نفس الوقت امتعاضا وحزنا من كوني ولدت في جسد مختلف…
حين دخل والدي فجأة بعينين تفيضان بشرار لا يبشّر بخير، لملمت ابتسامتي وامتعاضي لكنه خرج سريعا كما دخل وبوجه احتدَّت ملامحه وازدادت قسوة وصرامة مما جعلنا ننفض عن حفلة السروال، غادر أخي ليدسّ رأسه بين كتبه بعد أن وضع كنزه في دولاب أمي ولحقت أنا بأختي التي كانت تنتظرني في الحمام المنزلي.
كان هذا اليوم مخصصا للحمام الأسبوعي وقد يحتاج الأمر ساعة ونصف حتى ساعتين لإتمام طقوسه وهو وقت كاف للهروب من غضب والدي مجهول الأسباب.
كنت مأخوذة بالموسيقى لكني هذا الصباح بالذات لم أرفع صوت “الريزينغ” عاليا لأتحدى حضوره في غيابه أو أشاكس صمت أمي وأختي بعد خروج ذكور البيت إلى مهامهم، الوهج الموسيقي الذي أشيعه يوميا في البيت كدفقات من شموس رشيقة يتسلل خفية إلى الأركان وكنت آمل أن أكنس به كل هذه الرتابة التي تحافظان عليها بهمة النساء العظيمة..
لحقت بأختي والأفكار تأكلني لم غضب والدي عندما رآني مع أخي بالغرفة ومالذي يزعجه من فرحنا الصغير الهادئ؟
منذ أكثر من أسبوع ووالدي يدخل إلى البيت متجهِّماً أكثر من عادته ولا أحد يعلم سبب ذلك كانت هناك همسات تتردد بين الجارة التي تزورنا وأمي عن إشاعات تدور حول حدث يخص عائلة من معارفنا حاولت ابنتهم الانتحار بسم الفئران والبلدة كلها تتهامس حول شكوكها عن السبب..
لم يوصلني تجسسي اليومي لأي نتيجة لذا انتظرت حتى تكشف الأيام ما يخفيه تجهم أبي وهمسات الجارة وأمي..
خرجت من الحمام بخدود متوهجة وسعيدة بالفستان الأحمر الذي أخيرا وصلت ولايته إلي بعد أختي الكبرى والذي دعوت الله كثيرا أن يزيد في جسدي سنتميترات أخرى طولا حتى أتمكن من الاستيلاء عليه، وأنا اتلذذ بجمالي الافتراضي قبل ان أصل إلى المرآة في غرفة أمي وجدته أمام الحمام مباشرة يطلب مني بإشارة من يده أن ألحق به، لم يكن الأمر غريبا فقد شعرت نوعا بما سيحدث..
ذاب توهج وجنتيّ سريعا وأصبحتا باردتين جدا . الخطوات خلف والدي أيضا غريبة وباردة مشهد سينمائي لا تنقصه سوى كاميرا وموسيقى تصويرية، أنا أمشي خلفه ببطء وهدوء يخالف ارتجاف الطفلة داخلي بينما يسبقني هو بكل عصبية وتوتر يخالفان صرامته وهيبته.
حاولت في اللحظات القليلة من المشي خلفه قراءة أفكاره وماذا ينتظرني في الخطوة القادمة، ربما سيمنحني هدية أو ربما بنطلونا جديدا مثل الذي اشتراه لأخي أو لعله سيطلب مني ان أكتب له رسالة إلى أحدهم كما يفعل دائما..
الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بقيمتي كفتاة صغيرة في هذا البيت، أن يتنازل والدي ويطلب مني أن أكتب له رسالة مهمة أو أنقل كتابة بخطه المغربي إلى ورقة أخرى بخط أوضح، والدي العظيم الذي بمجرد همسة منه تنفد كل طلباته..
احتياجه لي يولّد بداخلي شعورا بالقوة والانتصار، أحيانا تمييز أحدهم وإعطاؤه إحساسا بأنه الأفضل هو فقط كل ما نرغب فيه لذا كنت أغذي أنانيتي الصغيرة وأنا أكتب ما يطلبه منّي بكبرياء وتباه لعله يدرك خسارته الفادحة حين منعني من إكمال تعليمي.
كنت أعلم جيدا في قرارة نفسي أن ما سيحدث مخالف تماما لكل ما أفكر فيه لكنني كنت كما دائما أهرب من الخوف بالخيالات وتأليف القصص، أيقظتني صفعة ساخنة جدا على خدي الأيسر.. غريب جدا كيف تصبح الصفعة ملتهبة بقدرة قادر في هذا الجو البارد، استوعبت سريعا ما سيحدث بعدما أقفل باب “غرفة الخزين” حيث تتكدس أكياس خيش كبيرة من القمح والشعير والسكر والطحين وخابيّتا التمر الكبرى والصغرى ومصيدة الفئران القابعة بينهما. طبعا أعرف جيدا كل ركن بالغرفة، سرقة المفتاح والتسلل اليها لسرقة حبات اللوز والجوز جزء من الشغب اليومي الذي أكسر به بعضا من قواعد البيت الصارمة، بدأت أفكر مرة أخرى كم من الوقت سيتركني هنا وبدأت أختار أيّ “الخناشي” سأجعلها سريري لأنام ليلتي مع الفئران، لكنه لم يتأخر طويلا ليعود وينزع حبل خنشة السكر ويلفّه على يده ويبدأ في مهمته الإبداعية العظيمة بترك خطوط حمراء وزرقاء على جسدي رغم الألم والبكاء في صمت خوفا من مضاعفة العقاب مجهول الأسباب، لكن صراخ الافتراضات توالى في داخلي دون توقف ثم بدأت أصرخ باكية مستعطفة:
“والله أبـَّا مانعاود والله أبـَّا منعاود والله أبـَّا
غير گوليّا آش درت والله أبــَّا منعاود”.
كنت جاهلة تماما بنوع الفعل الشنيع الذي قمت به لأعاقب لكنني وسط النشيج كنت أقسم صادقة على عدم تكراره،
الله يرحم بـَّاك أبـَّا عافاك أبّا الله يرحم بـَّاك أبـَّا عافاك أبّـا..
أرفقت كثيرا كلمة “بــَّا” لعلي أحنّن بها قلبه علي لكن على ما يبدو عادت بأثر عكسي..
في محاولة أخيرة تظاهرت بالإغماء وتظاهر بتصديق الأمر وتوقف لدقيقتين، خرج من الغرفة ليعود بقارورة ماء بارد أفرغها على رأسي وعاد إلى ما كان يفعله سابقا لكن هذه المرة بحبل مبلل ويد بارزة العروق…
لا أذكر متى انتهى الأمر أو كيف أطلق سراحي من الغرفة اللعينة كل ما أذكره أنني عدت إلى حضن أمي بجسد مبلّل بالماء والبول و المخاط والدموع، بجسد جريح وروح فاقدة الحس ولكوني يافعة السنّ تعذّر عليّ فهم ما حدث.
وحده صدر أمي العريض كان قادرا على جمع كل هذا البكاء وحوَّله إلى كومة تشهق في صمت.
ظل السؤال حجرا عالقا في حلقي لأيام، لكن حدسا ما بداخلي يشعرني أن جسدي الذي بدأ يكبر هو السبب في كل مايحدث، ثم بدأ شعور ما يثير الاشمئزاز من كل شيء حولي وبداخلي و ينمو على جسدي كالخزّ وشعور آخر في القلب يتحجَّر.
في الأسبوع الموالي جاءت جارتنا لتمارس عادتها اليومية في توصيل الأخبار لأمي..
ولأن متعتي الوحيدة حينها هي التلصص لم أكن لأسمح لهما بعزلي في هذا اليوم بالذات عن ما يحدث بالخارج، سأسمع ما يدور بينهما مهما كلفني الأمر وضعت الصينية وأواني الشاي أمام أمي مثل العادة، كفتاة مؤدبة خرجت من الغرفة ثم عدت للمطبخ لأتسلل وأنحني تحت النافذة المطلة لوسط الدار..
انحنت الجارة على أمي وسمعتها بصوت خافت تقول: جبت ليك صحّ الخبار كاليك ألالة البنت حملات من خوها هو هرب وهي بغات تقتل راسها.
أنا الان في السادسة والأربعين، مازلت أحمل كرهاً دفينا لهذا الجسد، أخفيه دائما أسفل الخزانة كما تخفي البنات ثوبا قديما يعزّ عليها التخلص منه، لكن ما يزال السؤال معلقا بحلقي ومحفورا حفر الوشم على جلدي، لم وحدي أُخذت بذنب الفتاة ولم وحدها أُخذت بالذنب وتحملت العقاب والاحتقار والمهانة لسنوات طويلة؟
هل كان جسدي؟ جسدها؟ أم جسدانا معا هما السبب؟