الوضوح

شاركها

عبد الكريم وشاشا:من هوميروس إلى أفلاطون ولادة الفلسفة – 1 –

من هوميروس إلى أفلاطون
ولادة الفلسفة
– 1 –

 

 

Luc FerrySagesses d’hier et d’aujourd’hui

 

 

قراءة وترجمة: عبد الكريم وشاشا/المغرب

 

تبدو أعمال أفلاطون في مظهرها سهلة وفي متناول الجميع، وذلك لأن النوع الأدبي الذي يستعمله في كتاباته هو الحوار الذي يدير خيوطه في غالب الأحيان معلمه سقراط الشخصية المركزية، وتعطينا الاحساس بأننا نفهم بيسر كل تلك النقاشات التي تخوضها شخصيات مختلفة حول الجمال والفضيلة والشجاعة والعدالة… إن مظهر هذه الأعمال، كما يعتقد أفلاطون نفسه، مخادع تماما، فوراء هذا السطح البسيط، تختبئ عمارة بهندسة فلسفية معقدة وبعمق سحيق. إذا كنا فعلا نرغب في فهمها (وكما سنرى فإن الأمر يستحق هذا العناء) فمن الضروري استعمال بعض المفاتيح، وهي التي سأقدمها اليوم بطريقة أتمنى أن تكون بسيطة مهمة.

 

لنقدم أولا المشهد أو السياق الفكري في عصر أفلاطون باليونان حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. إن الحياة الفكرية لأثينا خلال هذا القرن وربما أكثر ستعرف ازدهارا وانتشارا لكوكبة عظيمة من المدارس الفلسفية؛ توجد ضمنها بالطبع أكاديمية أفلاطون وليسيه (Lycée) أرسطو، والمدرسة الرواقية والفيثاغورية والمدرسة الذرية.. وحديقة أبيقور… إذن ما سبب هذا الانتاج وهذه الوفرة الفلسفية المذهلة ؟ وموقع أفلاطون داخل هذا الفضاء الفكري الجديد؟
الفلسفة تعني حب الحكمة، والحب هنا يعني البحث والسعي، ولا ينبغي هنا الخلط بين الفيلسوف والحكيم، هذا الأخير الذي لم يعد يسعى نحو الحكمة، ولكنه مثل سقراط يعيشها ويمارسها.

 

إن أول شيء يجب التساؤل حوله هو: ما يعنيه الخطاب الفلسفي ؟ إنه بحث مختلف مقارنة مع أنواع أخرى من الخطابات؛ كالديانات والأساطير.. الأساطير اليونانية في المقام الأول.
أقترح أن ننطلق من التمييز الأساسي بين نوعين من القيم: قيم أخلاقية من جهة، ومن جهة أخرى قيم أسميها روحية ليس بالمعنى الديني بل بالمعنى الواسع، أي حياة الروح.

 

قيم أخلاقية من جهة، وقيم روحية من جهة أخرى. إنه من المهم فهم هذا التمييز، ربما الأكثر أهمية في تاريخ الفلسفة، لكي نستوعب، ما هو الجديد الذي حمله لنا الخطاب الفلسفي مقارنة بالأساطير والديانات؛ وكيف أنه سينتج لنا هذا الشيء الغريب جدا والذي سأسميه “روحانية علمانية” (Spiritualité laïque) وهي تعريف للحياة الجيدة، والسعي وراء حياة طيبة، وراء الحكمة… لكن هذا السعي عكس الأديان، لا يمر بواسطة الإيمان أو بواسطة الله. والفلسفة هي قبل كل شيء جهد لتحديد والوصول إلى الحياة الجيدة. والحكيم هو الذي توفق في سعيه أن يعيشها، دون اللجوء إلى الله أو الإيمان….بل بوسائله الخاصة المتاحة، بالبصيرة ووضوح العقل، بقبول الشرط الإنساني، دون ادعاء خلاص يمر عبر وعد بالخلود.. هذه أجوبة علمانية، وهذا ما نسميه بكل بساطة فلسفة.

 

الفلسفات الكبرى هي في جوهرها روحانية علمانية، بمعنى أنها تحبل بإجابات عريضة لمسألة أن تحيا حياة كلها خير وفضيلة، دون مسلك الإيمان أو بواسطة الله والقبول خاصة بالشرط الانسان الفاني ومحدوديته.
حتى لو كان هناك فلاسفة قبل أفلاطون وسقراط، فإن الولادة الحقيقية للفلسفة في اليونان كانت مع أفلاطون باعتباره أول الفلاسفة الكبار الذي ترك لنا عملا فلسفيا ضخما سيؤثر ببليغ الأثر على تاريخ الفلسفة كله؛ وما يسمى ب”المعجزة اليونانية” ليس في الحقيقة معجزة، إذا أدركنا في الواقع كيف استعاد الفلاسفة الموضوعات الكبرى للميثولوجيا الإغريقية التي هي أس الثقافة اليونانية منذ وقت طويل. وبدلا من إعادة صياغتها بطريقة أدبية على شكل أسطورة، قاموا بعرض للأفكار الكبيرة التي توجد فعلا في الأساطير، ولكن بطريقة عقلانية، و”لائكية” من خلال استعمال المفاهيم، أي من الناحية النظرية، بدون مناجاة وتضرع دائمين للآلهة كما هو الأمر في الميثولوجيا.

 

سيحاولون التعبير عن الموضوعات الرئيسة للأساطير ونقلها بمعجم عقلاني، وأيضا بحجج وقناعات لائكية بدون مرجعية للتجسيد الإلهيعلى سكة الأوديسةلهذا السبب، إذا أردنا بالفعل أن نفهم ولادة الفلسفة وخاصة فلسفة أفلاطون، من الضروري أن نبدأ من الأساطير، وعلى وجه الخصوص العودة إلى أول ملحمة أسطورية وأدبية عظيمة، والتي تتضمن بالفعل الموضوعات الكبرى التي ستقوم الفلسفة بتناولها وبلورتها، إنها بالطبع ملحمة الأوديسة لهوميروس، أول نص مكتوب بالإغريقية حوالي القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وهو العمل الذي يحفظه أفلاطون عن ظهر قلب، ويشير إليه عدة مرات، وهو أيضا العمل الذي قام أرسطو، أعظم تلاميذ أفلاطون، بتعليمه وتلقينه إلى الاسكندر الأكبر. عرف الفلاسفة الميثولوجيا بشكل يثير الإعجاب: لقد كانت ببساطة الثقافة السائدة في عصرهم. وبشكلها الأدبي، كانت تمتلك أفكارا ميتافيزيقية عميقة غير مسبوقة…

 

هذه الملحمة العظيمة لهوميروس هي في الحقيقة بمثابة قالب وخزان لكل الفلسفة الإغريقية، بل، وفي نظري، لكل تاريخ الفلسفة؛ لذلك من المهم بمكان أن نبدأ بها.

 

من الفوضى إلى الانسجام

 

تفتتح ملحمة الأوديسة لهوميروس بالحرب، حرب طروادة، وتنتهي بعودة عوليس (Ulysse) إلى مدينته Ithaque ، مدينة يونانية حيث هو ملك فيها.. رحلته تبدأ من الفوضى الشاملة: كان أوليس بعيدا عن بلده يخوض إحدى أكثر المعارك فظاعة، والتي هي حرب طروادة، حرب قاسية ودموية للغاية، قاسية جدا إلى درجة أن بعض المقاطع الواردة في ملحمتي هوميروس (الإلياذة والأوديسة) والتي تسرد بتفصيل مشاهد للتعذيب الوحشي لا يمكن إدراجها في النسخ الموجهة للأطفال ولليافعين..

 

إن الأوديسة منذ نقطة انطلاقها وهي تحكي لنا، ما هي الحرب ؟ ما هو الصراع ؟ ما هو التنافر والخلاف و.. الكراهية…؟ سيسعى عوليس جاهدا طوال رحلته للعثور على التناغم والسلام والحب: وأخيرا سيعود إلى حضن وذراع زوجته Pénélope، وإلى قصره وبين أهله وخلاّنه وشعبه، وهو ما يسميه أرسطو ” مكانه الطبيعي ” أي المكان الوحيد الذي ينتمي إليه في الكون. سنعود إلى هذه الفكرة: بأن لكل منا مكانه الطبيعي الذي ينتمي إليه، وإيجاده عندما نفقده هو معنى الحياة نفسها. وهي فكرة عميقة جدا ستحتل فيما بعد موقعا مركزيا في الفلسفة الإغريقية وخاصة عند الرواقيين.

 

لكن ألا ترون معي بأن قصة عوليس، هي منذ البداية قصة فلسفية، قصة إنسان يبحث عن معنى حياته، يبحث عن الحكمة: فيلو صوفيا (محبة الحكمة)، إنه بالفعل فيلسوف، إنه بالفعل يوجد في قلب مسعى البحث والتقصي عن الحكمة. وهنا الحكمة تعني بالنسبة له الخروج من حرب طروادة بكل ما تحمله كلمة حرب من خراب وفساد وفوضى إلى هرمونيا (التوافق والتناغم والإيقاع) مدينته Ithaque، نحو الوفاق والمصالحة مع أهله وشعبه، ولكن أيضا نحو التصالح مع العالم، مع نظام الكوسموس (= الكون زمكانيا)… إن هذا السعي سيدوم 20 سنة، وهذا ما سيرويه لنا هوميروس في ملحمته.

 

إن هذه الحكاية العظيمة تتوفر على تمهيد أو مقدمة ألمح إليها هوميروس، لكنها بقيت متوارية في خلفية الملحمة، مقدمة ذات مغزى مهم تفسر لنا مصدر هذه الإرادة، وهي تحديدا فلسفية، تلهم عوليس وتحركه عندما يريد أن ينتقل من الفوضى إلى الانسجام، من الحرب إلى السلم. أي ما يشكل بكل بساطة معنى حياته… إن هذه المقدمة هي الحكاية التي تبدأ بها حرب طروادة بأكملها، حكاية “تفاحة الشقاق والفتنة” الشهيرة.

 

كي نحيط بالأمر جيدا، من الضروري أن ندرك مدى ارتباط الحكمة بفكرة الانسجام في المخيال الإغريقي والمرور من الفوضى والنزاع للوصول إلى نظام الكوسموس وإلى السلام. إن حكاية تفاحة الشقاق كانت من قبل ضمن قصيدة مفقودة اليوم للأسف، والتي كانت تسمى ” Chants cypriens”. لقد كانت هذه الحكاية معروفة لدى الجميع في اليونان، مثلما هي الحكايات المتداولة اليوم كقصة الأميرة النائمة، كانت جزءا من الثقافة المشتركة مثلما هي كل الأساطير اليونانية العظيمة. وتحكي هذه الأغاني السبب الأول لحزب طروادة.

 

تفاحة الشقاق وظهور الفوضى

 

كل شيء بدأ في يوم زفاف على أوليمبوس جبل الآلهة، الجبل الذي يسكنه الأولمبيون، 14 آلهة الرئيسة للبانثيون الإغريقي، أوليمبوس هو جبل زيوس، زيوس ملك الآلهة، وإله الآلهة. في هذا اليوم أشرف زيوس على زفاف إلهة مهمة اسمها ثيتيس Thétis وهي مثل جميع الربات خالدة وتتمتع بجمال أخاذ. لكن ثيتيس اختارت أن تقترن ببشري فان اسمه Pélée وهو أمر غير مألوف بين الآلهة. ومن المعروف في الميثولوجيا الإغريقية بأن ثيتيس وبيلي سيكونان هما والدا آخيل (Achille) أعظم بطل يوناني في حرب طروادة… أصدر زيوس الدعوات لحضور حفل الزفاف، لكنه ” نسي ” (نسي بين مزدوجتين، لأنه فعل ذلك عن قصد) توجيه الدعوة لربة، من المبغض دعوتها إلى زواج، الذي هو أصلا حفل بهيج ولحظة فرح؛ هذه الربة هي إيريس Éris؛ وإيريس باليونانية تعني الشقاق والفتنة.

 

وإيريس Éris عند اليونان دائما قريبة من إيروس Éros إله الحب. لماذا؟ لأن الخصام والكراهية غالبا ما يتبادلها ناس كان يجمع بينهما الحب.. على أي حال فقد أغفل زيوس دعوة إيريس. منزعجة وحانقة دعت إيريس نفسها وحضرت حفل الزفاف وعقدت العزم على زرع الفتنة والشقاق. فقد اختارت طاولة في الحفل يجلس حولها شباب في مقتبل العمر وألقت فوقها تفاحة مهيبة من الذهب.

 

وأصل هذه التفاحة من حديقة سحرية اسمها حديقة Hespérides يحرسها أحد العمالقة Titan Atlas شقيق بروميثوس Prométhée وابيمثيوس Épiméthée؛ كانت تفاحة مذهلة للغاية تشبه جوهرة مشعة، ويبدو أنها كانت مضاءة من الداخل حتى يمكن للجميع قراءة ما هو مكتوب عليها: إنها من نصيب الأجمل !! فاجتمعت كل نساء الحفل وادعت كل واحدة بأنها الأجمل وبأن التفاحة من نصيبها. واشتد الجدال والخلاف.. داخل حفل الزفاف. وهذا ما سعت إليه إيريس.

 

في النهاية بقيت أجمل ثلاث نساء في السباق؛ ثلاث ربات فاتنات، وكلهن قريبات وعزيزات إلى قلب زيوس؛ وهن زوجته Héra، وابنته المفضلة Athéna، ثم عمته Aphrodite إلهة الحب والجمال. أمام هذا المأزق انطلق زيوس إلى الجبال، وأتى براعي غنم بريء في الخامسة عشر من عمره؛ وقد كان شابا جميلا. وأمره زيوس أن يختار من هي الأجمل بين النساء الثلاث. وجد الراعي نفسه أمام الربات الثلاث، ووعدته كل واحدة منهن. فالإمبراطورة هيرا زوجة زيوس وعدته إن اختارها أن تهديه امبراطورية شاسعة يحكمها. أثينا قالت له : إن كانت التفاحة من نصيبها ستجعله ينتصر على كل الحروب التي يخوضها. أما أفروديت إلهة الحب والجمال فقد كان وعدها مقابل حصولها على التفاحة أن تضع المرأة الأجمل من نساء العالم في سريره. طبعا وكما يعرف الجميع اختار الراعي أفروديت.

 

سوف نكتشف بأن هذا الراعي الصغير، ليس راعيا على الاطلاق مثل الآخرين: هو في الواقع باريس شقيق هيكتور وكاسندرا؛ هو إذن أحد أبناء بريام Priam ملك طروادة. وقد تخلى عنه بريام قبل سنوات قليلة بسبب وحي تنبأ له بأن ابنه الصغير هذا سيكون سببا في دمار وخراب طروادة.

 

من هي إذن المرأة الأجمل في العالم ؟ طبعا إنها هيلين الفاتنة (Hélène)، ولكنها للأسف بالنسبة لطروادة أميرة يونانية، والأكثر من ذلك فهي متزوجة من مينلاوس (Ménélas) ملك إسبرطة، وإسبرطة هي مدينة المحاربين؛ إنهم أولئك الذين يعود أصلهم إلى أسنان تنين رهيب، انبثقوا من الأرض مسلحين منذورون للحرب وللعنف. وهكذا سيقوم أمير طروادي بإغواء واختطاف أجمل امرأة في العالم، زوجة ملك إسبرطة، وبهذا السبب ستندلع حرب مدمرة بين الإغريقيين والطرواديين ستدوم عشر سنوات، حرب دموية جدا وفظيعة ستنتهي بفوز الإغريق بفضل عوليس، وبخراب طروادة وذبح أهاليها عن بكرة أبيهم.

 

تابع