مرض الفساد..
بين التشخيص وسبل العلاج
برعلا زكريا – المغرب
استأثر خبر اعتقال وزير سابق باهتمام الرأي العام، وصار مادة دسمة للمجتهدين من المحللين، وذلك في إطار متابعته بتهم من بينها استغلال النفوذ، والارتشاء، وتبديد أموال عمومية.
وجاءت أبرز ردود الأفعال من خلال التدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبة بتفعيل مساطر المتابعة القضائية في حق كل من تحوم حولهم شبهات مماثلة، من ضمنهم برلمانيون، ورؤساء مجالس، وكل هؤلاء ليسوا سوى كوادر حزبية !
إن الأخطر من تفشي الفساد هو التطبيع مع الظاهرة، واعتبارها أمرا عاديا، وهو ما يؤدي إلى التسامح مع المتورطين.
من جهة أخرى، لا شك أن الباحثين عن الثراء بطرق ملتوية يعشقون الحياة بجنون، وغارقون في ملذاتها حتى آذانهم. ولعل هذا ما يفسر تبذير مليارين في عرس اجتمعت فيه كل مظاهر البذخ. هذا الحب الأعمى للحياة، والخوف من المتابعة، جعل المختلسين يفكرون في تحصين أنفسهم، والتكتل في عش الدبابير. والمراد بذلك سعيهم إلى تكوين شبكة قوية من العلاقات في كل القطاعات، مع السعي إلى توريط مسؤولين كبار، وتقاسم بعض الكعك معهم، مما يجعل الإطاحة بأحدهم أمرا صعبا لأن كل فرد سيجر معه العشرات.
والأدهى من ذلك أنهم يبحثون دائما عن مظلات يعززون من خلالها الحماية من المتابعة، كولوج البرلمان، وترؤس اللجان، ومصاهرة مسؤولين، ناهيك عن تقديم خدمات هنا وهناك…
متابعة الوزير السابق أربكت عش الدبابير، وجعلت كثيرا منهم يتحسسون رؤوسهم ويفكرون في الفرار.
هذا فيما يخص الفساد العمودي الذي يمارسه من هم في بعض مواقع المسؤولية، لكن ماذا عن الفساد الأفقي المستشري في صفوف المجتمع بجميع مكوناته ؟ وهناك مثل فرنسي يقول :
“Qui vole un oeuf vole un boeuf”.
بمعنى أن اختلاس أموال طائلة وسرقة أشياء تافهة أمران سيان، والحديث هنا، عن مجموعة من الناس نراهم يوميا في حياتنا، من ضمنهم أصدقاء أو جيران، أو زملاء في العمل، أو حتى أقارب، أصنافهم كثيرة، فهذا موظف يطلب الرشوة، وذاك رئيس مصلحة ينهب المال العام. قد يكون بائعا يتاجر في مواد منتهية الصلاحية، أو يرفع الأسعار طمعا، قد يكون طبيبا لا يبالي بصحة المريض، بل كل همه بناء “فيلا” الأحلام، حيث المسبح الكبير ومساكن كلاب الصيد.
قد يكون مواطنا باع صوته بثمن بخس، أو ممرضا تمتد يده لدواء المستشفى العمومي، أو أستاذا يقتات على أحلام الآباء وأبنائهم من خلال فرض الدروس الخصوصية دون أن يخلص في تقديمها.
قد يكون موثقا ينهب الودائع ويفر خارج البلاد، أو سمسارا بردهات المحاكم يتوسط لصالح من يدفع ، أو محاميا يتواطؤ ضد موكله وعينه على سيارة “المرسيدس” التي ينقصه القليل لامتلاكها.
قد يكون صحفيا تحت الطلب، لا يهمه إن كان المحتوى الذي ينشره مضللا للرأي العام، بقدر ما تهمه الإيرادات، أو صيدليا يبيع الدواء دون وصفة طبيب، بل ويتقمص دور الطبيب، ويعطي العلاج من اجتهاده فقط لتتحرك آلة الصرف وتطلق صوتها الذي يطربه.
قد يكون موظفا بنكيا يتلاعب بالأوراق، وبعقول الزبناء، ويعطيهم قروضا لا تتحملها أجرتهم الهزيلة، يشاهدهم يغرقون و ينتحرون، مع ذلك لا يحرك ساكنا، وكل همه الزيادة التي سيتوصل بها عن كل ملف ينجزه.
قد يكون منعشا عقاريا يغش في البناء، ويبخل في المواد الأولية لكي يحقق أكبر قدر من الأرباح ، ولا يبالي إن سقطت البناية فوق رؤوس ساكنيها. قد يكون نقابيا يبيع الأوهام وعينه على تحصيل مصالحه سيرا على منهج “أنا ومن بعدي الطوفان”.
قد يكون وقد يكون، حتى خشيت أن نكون كلنا هؤلاء ! فهم موجودون في كل مناحي الحياة.
من جهة أخرى، من منا لم يبحث عن وساطة تمكنه من تحصيل منفعة، كالاتصال بشخص يعفيك من أداء مخالفة مرورية أو الحصول على شهادة إدارية دون الانتظار في الطابور، أو الظفر بوظيفة يستحقها أحد أبناء الشعب البسطاء، تحت شعار : “يلا معندكش المعارف ما تقضي والو”.
والخبر المفرح أننا جميعا ميتون بعد حين، وهو أمر يتساوى فيه الجميع، مختلسون ومعوزون، وسواء أكلت غزالا مشويا أو خبزا وشايا فستشعر بنفس إحساس الشبع، وكلما تخلص الإنسان من التعلق بالماديات فسينظر لناهبي المال بعين من الاشمئزاز والشفقة لما يعانون منه من اضطرابات نفسية ناتجة عن الخوف من انكشاف أمرهم في أي لحظة، هذا الخوف الذي يتحول إلى وسواس قهري يحرم جفونهم من النوم، ويجعل من أجسادهم موطنا لأمراض مستعصية كداء السكري أو القولون العصبي، كما أنهم يتعرضون بشكل دائم للمساومة والابتزاز.
هذا فيما يخص التشخيص لكن ماذا عن العلاج ؟
وحيث أن ثقافة الفساد مرض مجتمعي خطير، فلا مناص من مجابهته من زوايا مختلفة.
فمن الناحية القانونية يمكن محاربة تحصيل الثروة بطرق غير مشروعة بتطبيق قاعدة “من أين لك هذا ؟” والتعجيل بالبث في قضايا الفساد بما يتطلب ذلك من حزم وجرأة مع حرمان كل من ثبت تورطه من تقلد مناصب تدبير الشأن العام.
كما يمكن استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة من أجل تعزيز النزاهة والشفافية، والعمل على رقمنة الإدارة بما في ذلك مجالس تدبير الشأن المحلي.
كل ذلك من شأنه تحصين المال العام من ضياع مليارات الدراهم سنويا وتوجيهها فيما يعود بالنفع على الجميع.
ومن أجل استئصال الورم من جذوره ينبغي تربية الأجيال الناشئة على قيم الأمانة والإخلاص، عبر التربية على المواطنة، سواء داخل الأسرة أو مؤسسات التربية والتعليم.
وفي النهاية، لا يجب التمادي في تسليط الضوء على قضايا الفساد لكي لا يفقد المواطن الثقة في المؤسسات ويتعزز لديه الشعور بالإحباط، كما أن هناك مغاربة شرفاء من مختلف شرائح المجتمع يتصفون بالمروءة والشهامة، ويؤدون واجباتهم بضمير مهني حي، يستحقون كل التقدير والاحترام.