رواية “بــراري الحمــى ”
أمكنـة موبـوءة بالحمى وفضاءات اللعنــة وسطـوة القهر
عبد الكريم وشاشا/المغرب
“بــراري الحمــى” للشاعر والروائي الفلسطيني المتميز ” إبراهيم نصر الله ” سرداب سردي موجع بالحمى والهذيان..
شظايا بركانية محرقة، تمتلك الأمكنة والجغرافيا فيها سطوة جبارة من العذاب والقهر، فهي مرة تتسع شساعة صحراء مترامية تبتلع كل من تصادفه خاصة تلك الكائنات المنذورة للضياع، أولئك المدرسين (الذين زرعتهم على غرف صغيرة بسقوف من عيدان الذرة، بأبواب بلا أقفال.. وليال طويلة بلا ضوء..” تتركنا عرضة ليديها .. تستعيدنا من غفوتنا وبين أسنانها نسمع تهشم أضلاعنا، تجترنا ثم تتركنا للحمى والوحدة القاتلة “)،
ومرة تضيق حتى أنها تحشر في غرفة حجرية على أطراف العالم.
قال عنها محسن جاسم الموسوي، علامة في الأدب ما بعد الحداثي، ومصطفى الكيلاني نعتها ب: سردية جديدة صادمة، أما الشاعر والروائي الانجليزي جيرمي ريد، فقد كتب في مقدمة طبعتها الانجليزية بأنها مجرة جديدة في الفضاء الداخلي، بينما في مقدمة الطبعة الثالثة بالعربية قارنت الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي بينها وبين رواية المتشائل للراحل إميل حبيبي كتجربة من أدق التجارب الجمالية تشربا لروح الحداثة. .
إنها مونولوج داخلي عميق ..
بئر بلا قرار في دواخل معلم انشطر إلى كائنين ينوحان بالعذاب، الأول اسمه محمد حماد والثاني اسمه محمد حماد، وكل واحد منهما يستقصي عن الآخر ويبحث عنه.
مدرس انفلق وتوزع عذاب روحه بين القرى المتصدعة.. (القرى الموثقة بالحبال التي لا ترى: البر.. البيوت.. الناس.. وكل الطيور القادمة من عذابات الشمال..)
قرى بدورها موزعة على أيام الأسبوع، فإذا كان يوم السبت ل”شمران” فالأحد ل”نمرة”، والاثنين ل”سر بني المنتشر”، والثلاثاء ل”عمارة”، والأربعاء ل”نخال”، والخميس ل”المخواة”، والجمعة ل”السواد”..
ثم تلك المسافة المحاصرة بين مخفر الشرطة والمقبرة في قرية مخاتلة اسمها “ثريبان”..
قرية صغيرة لديها مقبرة كبيرة !
تزرع الأمكنة والفضاءات بامتداداتها الممضة في أغوار الشخصية إحساسا قاتما بالاغتراب والعنف بل والموت، فقد حاول المعلم محمد حماد أن يجد امتدادا ل”سبت شمران” داخلة فلم يلف إلا التنافر صلة واحدة ووحيدة في قلبه، و”سبت شمران”:
( حجارة موزعة بين تلين من الصخور السوداء، عندما تدخلها يفاجئك القسم الشرقي منها، رابضا في أعلي قمة مدججة بالقلاع القديمة، موزعة في حجارة تلمع كالسكاكين، تخترق صدور العصافير وزرقة السماء وقرص الشمس الباحث عن الظل بين البيوت، سبت شمران سنة من الحزن والدم.. سنة من الموت)..
باختصار موجع: هي حرب غير معلنة بين دبيب الحياة وهدأة الجثث (ص:19).
منذ البداية، أي منذ لحظات التصدع الأولى، حين كان أو كانا في صندوق سيارة الجيب في ذلك اليوم الذي أمضاه أو أمضياه بين مدينتي “جدة” و”القنفذة” تضرب الأمكنة على الشخصية حصاراتها، فينتابها هبوط مريع تتلبسها قشرة قميئة سوداء من الضآلة :
(القنفذة بجبالها الجرداء وجلدها الحجري المتشقق تستلقي جثة متفسخة .)
ضمير المتكلم حينا وضمير المخاطب في غالب الأحيان صريع لذهان عصيب، بين كماشة وساوسه، يعيش في دوامة من المطاردات الدائمة، والمداهمات والدوائر المتربصة..
مطاردات من الشرطة ونساء راكضات وأطفال تتصايح، ورجال حفاة، ومخالب تصطك بالشارع، وكلاب تنقض على ملابسه وتعريه تماما.. هاربا، يعدو مثل حصان خشبي و..نتوءات حادة في الذاكرة (فخير وسيلة للنجاة هي الهرب – كان يركض بكل ما أعطاه الزمن من خوف – ص: 34)،
وكان الأستاذ محمد حماد يركض بجانبه !!
( ركضنا سوية .. عشرات المخالب، ليل نهار، ليل، وفجأة انكشف النهار.. مسفرا عن صحراء واسعة.. وشمس لاهبة، وفي أقاصي الشمال دوت ضحكة مبكية. – ص: 35).
رواية ميت وحديث جثة (كيف أكون ميتا، وأحدثكم في الوقت نفسه )،إنها ” أنا” أو “نحن” التي ماتت بعد الغروب تماما، والمضحك المبكي أنها تساهم في جمع التبرعات لدفنها..
فضيحة سردية بكل المقاييس.. دهليز ما نكاد أو نخال أننا وصلنا إلى أحد طرفيه، حتى نبتدئ من جديد وبمزيد من القسوة..
رواية لولبية لا تنتهي، ما دامت تلك الكائنات المنذورة للخراب، أولئك المدرسون الذين يصادفون الصحراء
( وكان هذا يتم كلما ابتلعت الصحراء أحد المدرسين )
إن رواية (حمى البراري) لإبراهيم نصر الله يجب مقارنتها برواية أخرى من أجمل الروايات العربية وأعنفها، إنها رواية فلسطيني آخر كان معلما في نجران (جنوب السعودية) إنه الكاتب ووزير الثقافة الفلسطيني يحيى يخلف في ( نجران تحت الصفر – دار الحوار : 1/1/1985).
هوامش:
– “براري الحمى” الطبعة العربية الثالثة 1999- المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
– القنفذة:مدينة سعودية على شاطئ البحر الأحمر جنوب مدينة جدة، وتبعد عنها 600 كلم، والقنفذة تمتد من ساحل البحر حتى جبال عسير.. ومن الشمال إلى الجنوب اتساعا لا يحد (هامش ص: 11).