الوضوح

شاركها

في أي منزلة يمكن تصنيف البشر؟

في أي منزلة يمكن تصنيف البشر؟

 

برعلا زكريا – المغرب

 

عندما تقتل الآلة الحربية أطفالا فيسمى ذلك بخسائر جانبية ! وعندما تتم المتاجرة بأرواح الناس في المستشفيات، وعندما يتم تغييب الأبرياء في السجون لسنوات! وعندما يتلذذ إنسان بتعذيب إنسان آخر، لا لشيء إلا لأنه تفوق عليه بالمكر والجاه، أو المال والخداع، فكيف يمكن تصنيف هؤلاء؟

 

إن الصفات الذميمة في البشر تجعل من هذا الكائن المؤذي غير قابل للتعايش والمشاركة، لولا أننا نتجاوز ونصبر، ونعفو طوعا أو كرها. فكم من زوجة تتحمل واقعا مريرا لا لشيء سوى لعدم وجود بديل، أو أن ثمن تحررها ينطوي على خسائر فادحة، معنوية أكثر منها مادية. وهو ما ينطبق على الزوج الذي يقاوم الضغوطات، ويلجم غضبه أو قلقه تحت أي مسمى. ولنا في ثقافتنا الشعبية أمثلة عديدة في هذا الباب، على غرار : “حتا واحد ما لقاها كيف بغاها” أو “قضي وعدي” أو “كلشي كيفوت بالصبر”.

 

ولعل ركون الإنسان المعاصر للانطواء والانغماس في العالم الافتراضي سببه أنه لم يعد يتحمل أخلاق قرينه الإنسان الذميمة، حتى لو كان أقرب المقربين ! فالهاتف الذكي مثلا يتيح لمستعمله إمكانيات عديدة في التحكم والاختيار، كمستوى الصوت ونوعية المحتوى الذي قد يتغير بحسب المزاج أو الظرف. وهو ما لا يمكن تحقيقه مع البشر، فقد تكون متعبا بعد يوم عمل شاق لتجد أمامك إنسانا يستنزف ما تبقى من طاقتك، سواء من خلال نقاش عقيم أو تصرف مستفز، دون أن يكترث لحالتك ومدى قدرتك على تحمل ترهاته.
وأحيانا لا يقوى الإنسان على تحمل ذاته وبنات أفكاره فبالأحرى تحمل شخص آخر !

 

من جهة أخرى فأغلبنا أحس بطعنة خنجر غادرة في ظهره، ممن كان يحسبهم أحبة ومقربين. قد تكون غيبة، أو إفشاء سر، أو سرقة، أو مؤامرة مقيتة، تجعل من تعرض لها يكره الجمل بما حمل ! ويبقى مدة طويلة تحت تأثير الصدمة. حيث أنه لم يخطر بباله أبدا، أن فلانا يخفي تحت ملامحه المخادعة ذئبا متوحشا أنانيا، لن يتردد في تحقيق مصالحه على حساب الغير. فكم من أب غدر به فلذة كبده، وكم من أخ صعقه أخوه! أما الأصدقاء والجيران وزملاء العمل فحدث ولا حرج.

 

ولعل أجمل نعمة أنعم الله بها على الإنسان هي نعمة النسيان، تجعلنا ننسى الأذى ونستمر. فالطفل الذي يسقط ويبكي من شدة الألم، ينهض من جديد وتعود له ابتسامته على الرغم من أن الدمعة لا زالت عالقة بجفونه، يبتسم وقد نسي تماما أنه سقط للتو. كذلك ننسى الموتى ونعود للرقص والاحتفال، بل قد تسمع نكتا وقهقهات أثناء مراسيم تشييع الجنائز. كما أن العائدين من المقبرة يأكلون “الكسكس” بشراهة ويتذكرون مواقف مع “المرحوم” !

 

قد ننسى وقد نتناسى، وقد نصبر أو لا نصبر. ونظل مع ذلك مجرد قصص مصيرها النسيان، وطعام مؤجل للديدان، وأوقات محدودة السريان.
أعمارنا لا تمثل شيئا أمام تاريخ الكون الفسيح، الذي تقاس مسافاته بملايين السنوات الضوئية، حياتنا العابرة لا تقارن بحركة أمواج البحر التي لا زالت تتكرر منذ زمن بعيد.

 

أما الذي يذكره التاريخ فهو المواقف البطولية والأعمال الخيرة التي تمثل بريق الأمل ونقطة الضوء، والدليل على أن الإنسان بالرغم من صفاته الذميمة يمكن أن يكون مميزا ويقلب السوء إلى خير يتعدى عمره المحدود، ويكون له صدقة جارية.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ ، وعلمٍ ينتفعُ به ، وولدٍ صالحٍ يدعو له. (صحيح مسلم)