الوضوح

شاركها

“عجلة جاري المحترم ” أو في سوسيولوجيا الهامش !

“عجلة جاري المحترم ” أو في سوسيولوجيا الهامش !

 

 

محمد امباركي

 

قراءة تحليلية للكاتب محمد أمباركي للقصة القصيرة “عجلة جاري المحترم ” لكاتبها القاص محمد عجرودي

 

إن كل تفاصيل القصة القصيرة ” عجلة جاري المحترم ” تحيل على الهامش…الهامش مجاليا واجتماعيا …الكل يقاوم شح الحياة وقساوتها…حتى الأمراض هي أمراض الفقراء منها الكحة والروماتيزم باعتبارهما علتين يتسبب فيهما البرد وقلة التدفئة…العين بصيرة واليد القصيرة كما يقول المثل الشعبي…ومن منا لا يتذكر الدعوات الشريرة لنساء الهوامش ..” الله يعطيك بزلوم، الله يعطيك الجرب…”…

 

التفاصيل الدقيقة للقصة القصيرة تجعل من صاحبها ” محمد عجرودي ” قاصا بعين سوسيولوجية ثاقبة ترصد كل صغيرة وكبيرة داخل عالم صغير تتطلع ساكنته الى أن تكون مرئية…أن تنفلت من عقال الدوران في الحلقة المفرغة للتهميش من خلال بطل الحكاية/التجربة الاجتماعية بامتياز… صاحب الدراجة. هي دراجة هوائية لكنها تثير انتباه ساكنة الحي من نساء وأطفال…كيف ذلك؟…المفارقة أن مصدر هذا الانتباه يجمع بين الصمت والضجيج…صمت الرجل وهدوئه والضجيج الناتج عن الأعطاب التي تطال الدراجة وهي شبيهة بأعطاب حياة صاحبها الذي ظلت أحلامه بسيطة جدا بل غير موجودة أصلا…أحلامه يطالها السكون والسكينة فورث عنه ابنه البنية القوية والشقاء والبذلة الزرقاء…إرث ثقافي بسيط  أو بلغة عالم الاجتماع الفرنسي “ب. بورديو “، رأسمال رمزي متواضع لا يتجاوز قيمة الاحترام وخصائص التحمل والجسد القوي والرجولي جدا…خصائص ثور الكوريدا والحصان الأصيل…وهي ما يحتاجه الإقطاعي الذي كان يشغله كحارس للضيعة …ولما خارت قوى صاحب الدراجة المحترم استبدله الٌإقطاعي بابنه…الابن صاحب الدراجة…هل هو محترم أم لا؟…يتركنا القاص في حيرة من أمرنا…ربما عن قصد…

 

القصة القصيرة تعرض لنا جزء من حكاية صاحب الدراجة المحترم على زمنين…زمن الطفولة والشباب بالنسبة للراوي…ثم زمن الشباب والشيخوخة بالنسبة لصاحب الدراجة الذي انتهى به دوران زمن الحياة الى لزوم باب منزله في انتظار ابنه الذي ورث عنه الدراجة والعمل ” المأجور”…هنا نقرأ في الزمنين زمنا واحدا بالنسبة للشخصيتين…الراوي وصاحب الدراجة باعتبارهما من أهم شخوص القصة القصيرة بالإضافة طبعا الى الدراجة ذات الحمولة الرمزية الغنية…إنه زمن الحراك الاجتماعي القار أو الساكن…الدرجة الصفر من الحراك….دراجة 700 لم تتغير بالنسبة للجار وبالتالي فهي تحيل على دوام وضعية  الهشاشة…الراوي لما كان طفلا وضع مسافة مع مدرسة لا تشبهه ” نتعلم كلمات لأناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا ” وبالتالي لم تكن رهان إنقاذ اجتماعي لجيل بكامله فاختار الهجرة وديار الغربة… المدرسة حقلا لإعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية في مرحلة  أنهكتها الإصلاحات وازياد منسوب الاحتجاج …لا شك أنها مرحلة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي…وهكذا يخبرنا ” محمد عجرودي ” أنه لو بقي ذلك الطفل الذي ربما “هو “، داخل ذلك الحي غير المرئي من طرف أصحاب السلطة والحظوة، لأنقطع ربما مبكرا عن الدراسة وتحول الى صاحب دراجة غير محترم أو صاحب عربة يجول بها ويقطع بها المسافات بين الدروب الضيقة / الأوكار / الهوامش، مناديا بأسعار الخضر أو السمك أو ” أدوات النظافة” يغادر الحي كل صباح باكر…وقد لا يكون صاحب عربة محترم لا يشبه صاحب الدكان غير المحترم الذي كان يعاكس زوجة صاحب الدراجة ” مستغلا نفوذه التجاري المتشكل من رساميل الزيت والسكر والزيتون …لكن الزوجة ” الفارعة الطول” وذات ” الشعر الطويل الممشوط بعناية ”  صدته ودافعت عن نفسها بروح قتالية عالية…ولا شك أن الطريقة الدافئة التي تودع بها الزوجة زوجها صاحب الدراجة المحترم بمعية ” زاده” ودفاعها عن نفسها أمام إغراءات المتلصص الغادر صاحب الدكان المظلم، تحيلان على قضية ظلت مسكوت عنها بين ثنايا القصة القصيرة…كيف كان يتمثل صاحب الدراجة حياته؟ كيف كان يفاوض دروبها الشاقة؟ كيف كانت علاقته مع دراجته التي ظلت تدور ولما شاخت وفقدت لونها الناصع و توقفت عن الدوران وجد صاحبه نفسه ربما يمتطي كرسي غير متحرك أمام باب منزله يترقب وينتظر دراجة أخرى تدور؟ دراجة ابنه…هل هي نفس الدراجة؟…والأهم في كل هاته الاسئلة : كيف كانت حياة صاحب الدراجة داخل عالمه الصغير، مع زوجته وأبنائه؟…ماهي تفاصيل عشقه لزوجته التي كانت تعشقه هي أيضا؟…القصة القصيرة تخبرنا أن ذلك العالم الصغير كان الحضن الدافئ الذي ينسيه شقاوة عالم خارجي لا يرحم…وهي قساوة تتوزع بين هامشية الحي  وإقطاعية الحراسة في مدينة زراعية حديثة ورث أغلب حقولها الغنية أعيانا كانوا في خدمة المعمر…وهكذا ورغم أن ” محمد عجرودي ” جرد الحي / الوكر من الأحلام وحرمه من الحق في التطلع الى حياة أفضل، فإنه لو منح القاص الفرصة للراوي ” الطفل، الشاب ” وسأل صاحب الدراجة  عن رأيه وتمكن من فك ارتباطه بالصمت، لقال له بصوت مرتفع وهو يستحضر عالمه الصغير المليء بالعشق والمودة وعنفوان الطيبوبة والسلطة الرمزية ..سلطة زوج وأب يشقى بكثير من الأنفة والاحترام،: ” يا جاري العزيز، لم أعش فقط لأملأ الحكاية، لأملأ دورة الحياة كعجلة دراجتي التي تهوى الدوران….هذا حكم خارجي قاس…حكم ساكنة الحي المتلصصين وحكم مهندس الحكاية الذي ظل يراقبني خلال مرحلة طفولته وما بعد طفولته واختزل تجربتي الاجتماعية في العلالقة بالدراجة المهترئة “!…

 

لقد شيد القاص “محمد عجرودي ” جدران التجربة الاجتماعية لصاحب الدراجة المحترم بكثير من الغنى في الشخوص، الفضاءات، الأحداث الصغيرة بأبعاد كبيرة، وهذا الغنى عكس في الحقيقة عمق مفارقات الواقع وتناقضاته الاجتماعية والمجالية، بين هامش يرى نفسه من خلال طريقة العيش والعلاقات الاجتماعية غارقا في ” التكرار الاجتماعي “…والتكرار بقاء في نفس المكان كما هو شأن لدوران العجلة …

 

إن “عجلة جاري المحترم” هي عنوان لتجارب جيل قاوم القهر الاجتماعي بطريقته الخاصة وفضل أن يعيش هو وقهره في إطار مغلق بعيدا عن عيون المخزن الذي كان يرمز إلى الظلم والبطش ويراقب كل صغيرة وكبيرة…ولكنه كان جيلا بارعا في خلق مساحات من الفرح والمرح  والانفلات من عقال التلصص والمراقبة مهما كانت دورة الحياة اللعينة…