نبش في أوراق من تاريخ المغرب:
هل هي عودة الى روح ’’الظهير البربري’’
و ظهير ’’كل ما من شأنه’’؟؟
مبارك المتوكل
لماذا كل هذا التآمر على وطن استطاع عبر التاريخ أن يكون مصدر إشعاع فكري وحضاري؟
عندما عرف الشرق الإسلامي والعربي مرحلة انحطاط ونكوص، كان في المغرب أعلام مثل ابن خلدون وابن البناء المراكشي وغيرهما، في كل مدينة كان على الأقل فقيه وموقت وفلكي، هذا إذا لم تكن المدينة ساحلية تتطلب عارفا بالأنواء وتحولات أحوال الطقس معرفة ضرورية لخوض غمار المحيط .
لكن عدوى التشدد والتزمت القادمة من الشرق، والتي تبناها السلطان المغربي الذي قرر بتأثير من المذهب الوهابي إغلاق الحدود في وجه كل وارد من الخارج الغير المسلم، كان لها أكبر الأثر على مسار الوطن وأهله.
صحيح أن هذا الموقف حافظ لأزيد من قرنين على استقلال المغرب، لكن التحولات السياسية والاجتماعية وكل ما عرفه الفكر الإنساني من تطور ظل مغيبا عن هذا الوطن، فلم تستطع نسائم المعرفة والحرية أن تهب على المغرب.
كان لهذا التأخر في مجالات الفكر والمعرفة أثره فيما سماه بعضهم بالتدين المميز للمغاربة. ونرى أن الغرض من هذا الرأي محاولة تبرير تطرف مشبع بالخرافات إلى حد ينسب الكرامات والخوارق للأولياء. مما جعل المجتمع تحت تأثير هذه المواقف، يلتجئ إلى الشعوذة وإلى الإيغال في محاربة الفكر الحر منطلقا من أننا خير أمة أخرجت للناس. وأنه يكفي أن نلتزم بما يوصي به من يدعي أنه الفقيه الذي كان يفتي في كل شيء، و بانضباط المجتمع لفتاويه تتحقق سعادة الدارين.
من أخطر نتائج فتاوي هولاء الفقهاء هزيمة واد إسلي سنة 1844، إذ حرموا حرب الجبهات، لأن الصحابة كانوا يلجؤون في معاركهم إلى أسلوب الكر والفر، ولا يمكن أن نغير أساليبنا لأن كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار..
لقد علق صحفي ألماني المنشأ، أممي التوجه، كان موجودا حينها في الجزائر للعلاج والنقاهة، كان يسمى كارل ماركس، الذي اعتبر أن الجنرال بيجو المنتصر لم يكن في مستوى معركة أعدائه، فيها أكثر عددا وعدة وعتادا ولم يكن ذا مهارة، فكرا، ولا تخطيطا. لكن تطبيقه لأوليات حرب الجبهة، جعله يحقق انتصارات ساحقة جعلت الغرب يكتشف أن هذا العملاق المخيف لا يملك ما يكفي من القدرة لحماية نفسه، في مرحلة استطاع الإستعمار فيها أن يكتسح القارات ويقضي على حضارات عريقة، وكان المغرب هذا الجار الغامض المخيف يمنع إحدى طرقه إلى إفريقيا.
كانت هزيمة إسلي بداية لسلسلة من هزائم كثيرة، أخطرها وأشدها وقعا وتأثيرا، هزيمة حرب تطوان التي أغرقت المغرب في الديون، مما فرض على المخزن المغربي القبول بشروط مجحفة ومهينة أدت إلى نظام الحمايات الفردية، الذي أذكى نعرة الانتهازية لدى الأعيان، بمن فيهم عناصر من المخزن كانوا يبحثون عن الحماية من تعسف المخزن واستبداده، لأن أعوان المخزن مهما كانت مكانتهم لم يكونوا محميين من العقوبات التي قد تصل إلى التتريك (المصادرة) والسجن وحتى القتل.
لقد دخلت الدول الاستعمارية في منافسة من يرهق المخزن ويذله أكثر. وانتهى الأمر بهذه الدول إلى اتفاق جعل المغرب رسميا تحت الحماية الفرنسية والإسبانية. لكن هذه الحماية تحولت إلى استعمار استيطاني، أخضع المخزن وقضى على بؤر المقاومة بعد حرب ضروس استمرت منذ1909 إلى حدود 1934. وقد استطاع الجيش الفرنسي آنذاك أن يوحد البلاد لأول مرة منذ عهد المرابطين والموحدين، وأن يخضع لسلطته المتسترة بثوب المخزن كل وسط المغرب وجنوبه، كما ارتأى أن يساعد المستعمر الإسباني في حربه على الثورة التي قادها في الريف القائد البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي .
بعدها عمل الاستعمار الفرنسي على إعداد البنية التحتية لما سماه ’’تهدئة’’، ولكن أيضا لامتصاص خيرات المغرب . واقتضى ذلك القضاء على البنيات التقليدية كلها بإستثناء المخزن، الذي احتفظ له بالدعاء في المساجد والتوقيع على الظهائر كنصوص قانونية، ظل المغاربة يعانون من تأثيراتها إلى زمننا هذا . ولعل من أخطرها كان القانون الذي وقعه السلطان ابن يوسف سنة 1935، الذي اشتهر طيلة سنوات الرصاص باسم ظهير “كل ما من شأنه” حيث كان المناضلون لا يحاكمون من أجل مخالفات أو جرائم معينة، وإنما يعاقبون على كل فعل أو سلوك في نظر الحاكم أو الضابط أو القاضي يمكن أن يحدث أثرا داخل المجتمع.
بهذا المنطق صدرت أحكام غريبة على المقاومين، ومع مجيئ الاستقلال، وبمقتضى نفس الظهير، صدرت أحكام تتفاوت في الشدة والقسوة على مناضلين نقابيين وسياسيين .
حتى بعد إلغاء هذا الظهير، فإن مضمونه لا يزال مطبقا ويؤدي إلى صدور أحكام أكثر قساوة على أشخاص، ذنبهم الوحيد، أنهم عبروا عن موقف أو رأي مضاد لمن بيده الأمر أو السلطة، أو لأنه يمس شخصه أو مصالحه . بهذا المنطق و بنفس السلوك يحاول بعض من المسؤولين أن يمنعوننا من التفكير، ومن كل مبادرة أو إبداع أو إبداء رأي يخالف رأيهم، ولا يتلاءم وميولاتهم ومصالحهم وهواهم، وهم بذلك، يقضون على كل إمكانية تقدم للمجتمع.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الظهير المشؤوم جاء كردة فعل على الحركة الاحتحاحية السلمية التي ثلت صدور الظهير البربري . وكانت دعوات اللطيف التي يرددها المسلمون في المساجد تزعج المستعمر وخدامه، وكان “من شأنها ” أن تقلق راحتهم وتمس سكينتهم. على أن تنفيذ الظهير البربري الذي وقعه السلطان سنة 1930 لم يكن يشمل إلا منطقة الغرب والأطلس المتوسط التي كان الاستعمار قد قضي فيها على المقاومة المسلحة .
بالرغم من أن الظهيرين قد ألغيا كقانونين، فإن الواقع المعيش اليوم يظهر أن روحهما لا تزال تضغط على الواقع اليومي الذي يؤكد استمرارهما .
إن مجرد مشاهدة كيف ووجهت المظاهرة السلمية الاحتجاجية التي دعت إليها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ليوم 19 فبراير2023 و كيف عوملت و تعامل باقي الحركات الاحتجاجية الأخرى، التي “من شأنها” أن تقلق راحة المخزن ، و مجرد مشاهدة استعراض تلك القوات بعددها وعتادها، يؤكد استمرار روح ظهير “كل ما من شأنه” السيء الذكر .
أما الظهير البربري الذي لم يفلح في تمزيق وحدة الشعب المغربي في عهد الحماية، فقد وجد في عناصر مشكوك في هويتها، تدعو إلى نوع من التمييز العنصري الغريب على المجتمع المغربي والمبني على الإثنية والعرقية واللغة،نوع من الانبعاث أو الاستمرارية، التي تستثمر سياسيا لضمان الهيمنة على الشعب المغربي .
اذا كان المعرب يقع جغرافيا في منطقة لعبت دورا تاريخيا في دمج الاثنيات وصهر الثقافات وتزاوج الأعراق والأجناس، إلى درجة أصبح معها الانتماء العرقي أو الإثني يحدد فقط بالمنطقة الجغرافية أو اللهجة السائدة لاستحالة ضبط الأنساب، و اذا كنا نعتقد دائما أن وطننا براء من العنصرية ومن الطائفية، فإن العقود الأخيرة قد شهدت مواقفا عديدة و سلبية من بعض المثقفين، الذين يحاولون تأويل روايات عن أحداث عفا عليها الزمن وطوتها القرون، ولا وجود لما يؤكد أو ينفي حقيقة أو عدم وقوعها، ما دامت الوثائق المؤكدة أو النافية لتلك الأحداث منعدمة.
إن دور المثقف في نظري المتواضع، هو أن يرتبط عضويا بالقضايا الحارقة، التي تمس حقوق الجماهير المسحوقة والمحرومة من أبسط الحقوق في الصحة والتعلم والسكن والشغل كحقوق أساسية، لا مبرر لوجود الدولة بدون توفيرها.
إن مجتمعنا في حاجة إلى ذلك المثقف العضوي، الذي يتمثل هموم الجماهير ويعبر عنها بما توفر له من أدوات معرفية، ويساهم في النضال الفاعل لرسم الآفاق والقيام بالأدوار التنظيرية والتنظيمية، لإنجاز المهام الضرورية لتحقيق العدل والمساواة، عن طريق إحقاق الديمقراطية وفرض التوزيع العادل للثروة، والدفع للمساهمة في إنتاجها وخلقها .
آنذاك، لن ينشر الإعلام الغربي عن وطننا إلا ما يشعر به المواطن ويعبر عنه المثقف والمبدع وتدافع عنه الجماهير الناعمة بالحرية والمتمتعة بالحقوق كاملة.
آنذاك سيكون للتظاهر و الاحتجاج و الترافع نبرات أخرى.
أما محاولة إخماد الأصوات وقمع كل صيغ التعبير، يعتبر موقفا لا يفرق بين الإنسان وباقي الكائنات الأخرى ، فلا تجعلوا جماهيرنا أحط من الكلاب التي تعوي إن ضربت، وتصعر إن جاعت فتعض القريب والبعيد . و كما يقول الشاعر:
حذا ر من جوعي ومن غضبي
فإني إذا جعت آكل لحم مغتصبي.