الوضوح

شاركها

“رجل يبتسم للعصافير” لمبارك وساط حين تؤرخ القصيدة لسيرة الذات في العالم..

رجل يبتسم للعصافير” لمبارك وساط

حين تؤرخ القصيدة لسيرة الذات في العالم..

عبد المنعم الشنتوف

 

يفترض الاقتراب من الكون الشعري للشاعر المغربي مبارك وساط قدرة على القبض على الدينامية القوية التي توجهه وتشرع من ثم آفاقا رحبة أمام المتلقي المحتمل. تتفاعل قوة التعبير الشعري بما يستلزمه ذلك من لغة وصور واستعارات وموسيقى مع خصوبة العوالم الممكنة كي تؤسس لتحقق شعري يتسم باختلافه النوعي عن التراكم المهيمن في خصوص قصيدة النثر والذي تغلب عليه السطحية والرداءة في المستويين الجمالي والمعرفي. مبارك وساط صوت استثنائي في المغرب الشعري، ويشتغل منذ عقود في صمت وتواضع على تصوره الخاص لكتابة القصيدة وحضورها في العالم. ويتميز الشاعر في هذا السياق بثقافته العميقة التي تزاوج بين التراث والحداثة وانفتاحه الواعي والرصين على المنجز الشعري للآخر عبر وسيط الترجمة. حقيق بالتنويه في هذا المعرض أن الشاعر أثرى المكتبة العربية بترجمات متميزة لروني شار، روبير ساباتيه، محمد خيرالدين، محمد ديب، هنري ميشو، أندريه بروتون وروبير ديسنوس. ولا يسع القارئ الحصيف والقادر على النفاذ إلى الكون الشعري لهذا الشاعر إلا أن يعثر على علامات دالة بقوة على حضور هاته الآفاق المعرفية والإبداعية المتعددة. أصدر الشاعر أربعة دواوين شعرية:

“على درج المياه العميقة” عام (1990) عن دار توبقال بالدار البيضاء، “محفوفا بأرخبيلات”.. يليه “على درج المياه العميقة” (صيغة مراجعة ومنقحة) وبعده “راية الهواء”، عام( 2001) عن منشورات عكاظ، “فراشة من هيدروجين” عام( 2008) عن دار النهضة العربية ببيروت و”رجل يبتسم للعصافير” عام 2011 عن دار الجمل، بغداد/ بيروت.

يتأسس التحقق الشعري الجديد على رهان الاحتفاء بحضور الحكاية داخل القصيدة؛ بما يستدعيه ذلك من احتفاء مقصود بتهجين الأشكال التعبيرية. وسوف يحيط القارئ علما بتعالق هذا الاختيار بالمقصدية التي تحكم هذا التحقق والتي تتحدد في التأريخ لسيرة الذات في العالم. تتعالق هذه الاستعادة السردية بطموح إلى الاحتفاء الشعري بالمكان أو الأمكنة التي عبرت بها الذات بمختلف تحولاتها المادية والرمزية. يبدو التشديد على عين الطفل التي تنقل من الذاكرة مشاهد حية من سيرة السلالة دالا؛ إذ يتيح قرينة شعرية قوية على حنين مضمر إلى “طفولة العالم” بما يعنيه ذلك من اشتهاء للبدايات وتوق إلى مد الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل.

” في الحديقة المهملة، ترفو الجدة جوارب وذكريات. من بين أهداب الحفيد، تنداح فراشات القلق، الشمس توشك على الغروب. يتذكر الطفل جده الذي جن على ظهر ناقة، فتمتلئ عظامه بالرمل والحداء. الطفل قضى ساعات الصباح متأملا ما تبقى من بيت قديم كان للجد الذي شرع في هدمه ذات فجر عازما أن يقيم مكانه خيمة من إسمنت، لكن بعد أن خرب معظمه، حلت به لعنة السراب، فمضى ليضيع في الصحراء” الديوان، ص 9.

يمكننا أن نستشف حرص الذات الشاعرة على وصل أسباب هذه الحكاية الشعرية بالمعجم الشعري العربي القديم، ولن يعجزنا في هذا الخصوص القبض على فضاء الصحراء وسماته الدالة من ناقة ورمل وحداء وخيمة. هل يسعنا والحالة هاته أن نرى في الطفل الذي يروي صورة دالة على الشاعر الذي يتصادى مع سلالته الشعرية. ربما يكون التأويل مشتطا، لكننا نفترض فيه بعض الوجاهة بالنظر إلى ما سوف نعثر عليه داخل النصوص من قرائن من شأنها أن تعضده. يبدو السفر وسط الصحراء وحالة الجنون التي عصفت بالجد والتجاور بين الخيمة الدالة على العبور والهشاشة والاسمنت الدال على القوة والثبات، قرائن على انتقال جذري من الصفاء إلى الالتباس. أو من الاستقرار والاطمئنان إلى الترحال والتيه. نفترض في هذا الخصوص أن تكون لكمات الرعد التي تهاوت على حلم الطفل فاتحة شعرية لهجرة الذات نحو مجهولها.

 

يلح عليّ وأنا أتوغل في العوالم الممكنة لهذا الديوان افتراض مؤداه أن الهجرة التي يحتفي بها تتوزع على مستويين فيزيقي ورمزي. تؤشر الهجرة والحالة هاته على الانتقال من مكان إلى آخر، وهو ما قد يشكل تفصيلة خاصة في حياة الذات الشاعرة، لكنها قد تكون أيضا تعبيرا شعريا عن الفقد والتيه والترحال المطرد بحثا عن المعنى. يبدو التشديد الشعري واقعا على الهشاشة والعبور الدائم والانفلات من أي تحديد. تؤشر الهجرة على رغبة الذات في الاكتشاف والسعي نحو الغامض والمفارق للمألوف؛ وهو ما يستلزم بالضرورة اطراح الجاهز والمبتذل والمكرور:

نمضي تحت سيول الماء
مخلصين للمطر
لهواء مُسِنّ
تاركين للعواصف
أن تهبّ من القفص الصدري
لأمّ، لِلْبرقِ أن ينداح
من عَينَي
رضيعها
نغذُّ السَّيْر أحرارا
ما من شيء يُخيفنا
نحدّق إلى عين الحلزون
نعالج بلاهة الطّقس
بمرهم
من مخّ الغراب.. الديوان. ص، 11.

 

يفترض اكتشاف العالم بعين الطفل القدرة على نبذ المتعاليات والأحكام والقناعات والحقائق المسبقة والجاهزة ومد الجسور بالبدايات حيث الحرية قيمة في حد ذاتها والخيال بوابة مشرعة على الأحلام والدهشة والكشف. يبدو التشديد على الحرية واطراح الخوف وتحدي غضب الطبيعة في سياق فعل الاستعادة السردية قرائن على تلكم الرغبة في تحويل الطفولة إلى معيار تحتكم إليه الذات بغية رصد التحولات ومظاهر الاختلال التي تطول وجودها داخل الأمكنة التي تقيم أو تعبر فيها. وكما يغسل المطر المدينة من الغبار والأدران، تجلو عين الطفل الصدأ عن الذاكرة. يكون في مقدور الذوات المتلقية أن تتمثل في الآن نفسه حرص الذات الشاعرة على الاحتفاظ بالوصل الموجود بين الماضي أو الذاكرة الذي يمثله الجد أو الحاضر أو راهن الاستعادة كما يمثله الطفل. يمثل الاحتفاء بوصايا “الجد” مؤشرا شعريا على أن القدامة ليست مرادفا عضويا للسلب وتمثيلاته وأن الهجرة إلى المجهول قد تتحول في غياب إشاراتها الهادية إلى تيه منذر بالأعطاب.. يوصي الجد الطفل باعتناق قيمة الحرية والتوحد بها وبتعبيراتها واتخاذ الحذر من العسس المتربصين بها:

– لا تأبه لهم إذا
وضعوا عظامك تحت المراقبة
أَخْفِ الأجراس في الأعشاش
رُصَّ أحلامك في الأقداح
دُسَّ الكهرباء في الأحجار
فلن يعثروا ضدّك
على دليل.. الديوان، ص 25-26.

سوف أفترض من خلال قراءتي لنصوص هذا الديوان اشتماله على قسمين. يحتفي الأول بهجرة السلالة من خلال عين الطفل التي تستعيد بعض التفاصيل والصور وترمم تصدعات الذاكرة، فيما يصبو الآخر إلى التأريخ لسيرة الذات مع الجسد والآخر وما يحلو لي أن أصفه باكتشاف الحواس. وفي غمرة هذا البوح الشعري الذي يتيح للمتلقي فيوضا من الصور والحالات، يتوسل الشاعر لغة تؤالف بين العتاقة والحداثة وتستثمر اليومي وتفاصيله علاوة على وفرة من الصور تحاور بطريقة إبداعية التقليد الشعري السريالي. أجدني مشدودا والحالة هاته إلى صورة المرأة التي تحضر بما هي تمثيل للآخر المختلف والمحفز على اكتشاف الشهوة ومن ثم اعتناق غريزة الحياة:

يحل الأحد، فأمضي إلى البار ثم
إلى ملعب كرة القدم لتشجيع الفريق الذي أناصره..
أو إلى البار ثمّ رأسا إلى غرفة مريم
التي تبيعُ لي الهوى بالدَّين وفي المُقابل
أُطفئُ الضّوء قبل أن أستلقيَ في سريرها
وأتخيل أنّها الفتاة التي أحببت
وأنا في السّادسة عشرة
بعد وقت سئمْتُ لعبة التَّخيل تلك وأصبحتُ أضاجِعُ
مريم باعتبارها مريم فحسب.. الديوان، ص 43-44.

 

نكتشف من خلال قراءة هاته النصوص الحضور “المتعدد” للمرأة الذي يقيم القطيعة مع المستقر والسائد في المتخيل العربي. يتعلق الأمر والحالة هاته باختيار التعبير الشعري عن اللقاء بالمرأة بمعزل عن إكراه التطابق وسطوة التمثيلات الجاهزة والنمطية. يفترض اكتشاف الحواس والتعبير عن الجسد ولغاته ومسراته في هاته النصوص استثمارا مكثفا لموضوعة السفر بما يستدعيه ذلك من تعدد في الأمكنة ورحابة الآفاق. تحضر المرأة تأسيسا على ذلك بما هي تحقق حسي يتشكل في صورة العاهرة التي تبيع الهوى بالدَين، لكنها تتحول عبر وسيط التخيل والاستيهام إلى “بديل” يعوض عن فقد الحب الأول. يتعلق الأمر بصور وحالات وتفاصيل يسردها الشاعر كي يبسط تاريخه الشخصي مع الجسد وخرائطه. ولأن الشاعر حريص كما ذكرت آنفا بالوصل بين الماضي والحاضر والمؤالفة بين الذات والآخر المختلف، فإن المتلقي سوف يكتشف والحالة هاته الحضور الدال لأوفيليا ومارية ودولوريس. ربما يشكل استدعاء هاته الوجوه قرينة دالة على رغبة الشاعر في أن يجعل سيرته مع الجسد والحواس مشرعة على رياح العالم.:

في الباص المُتوجّه إلى وسط المدينة، قضيتُ بعض الوقت أتملّى لوحةً مرسومة بتجاعيدَ من مختلف الحجوم والألوان على قفا الجالس أمامي. يا للألوان المتناسقة! يا للجسد الأنثوي الباذخ! يا للشّبق الذي يَضِجُّ به جسدُ المرأة الممدّدة على جنبها عاريةً على السّكّة الحديد! ومن بين نهديها، انداحتْ فراشاتٌ نحو النافذة المفتوحة جنبي. ثمّ ها أسنان المُستلقية تُعضعض شفتيها… ولن أعرف أبدا لمَ قرّرتِ الانتحار.
أخرجتُ هاتفي المحمول الصَّغير، وهتفتُ لمارية. قُلْتُ لها إنّ مارية الأخرى أصيبت البارحة بحروق. قُلتُ أتمنّى ألا يمرّ أيّ قطار قبل أن أنزل من الباص. قلتُ الفراشاتُ تمرّ ملامسةً جبيني وعبر النّافذة تغزو المدينة. لكنْ إذا نتجت عن ذلك كوارث فسيتحدَّثُون عنها في التّلفزيونات! الديوان، ص 60.

 

يدفع الشاعر بالدهشة إلى حدودها القصوى في هذا النص الذي يؤالف بين حيوية السرد وكثافة الصورة الشعرية. وسوف يكون في المقدور أن نتمثل كيف يصور الشاعر مقاومة الحياة للموت الذي يتهدد المدينة. سوف أتخيل الفراشات المنداحة من نهدي المرأة المستلقية باعتبارها إشارات قوية ومحفزة على اعتناق الحياة ومسراتها. وتأسيسا على ذلك، يكون القطار العابر تمثيلا للموت الذي يهدد بالنهايات وعودة الصحراء وصورها السلبية. هل يسعني والحالة هاته أن أتمثل الخيط الناظم بين هجرة الطفل وسيرة اكتشاف الجسد والحواس في هذا الهروب من الصحراء حيث التيه والجنون والجدب وإكراه التطابق إلى المدينة حيث التعدد والخصب وصخب الحياة؟

 

في غمرة هاته الرحلة الشعرية المثيرة، يكون الرجل الذي يبتسم للعصافير في المحصلة الأخيرة قرينة دالة على ذلكم الطفل الأزلي الذي يسكننا والذي يتملكه التوق إلى التوحد بالعالم واكتشاف خرائطه بمعزل عن سطوة الأنساق والتمثيلات الجاهزة.

 

لا يسعني وهاته المصاحبة النقدية تستشرف نهايتها النسبية إلا أن أعترف بالمتعة الجمالية والمعرفية التي أتاحتها لي. وفي غمرة الضجيج الشعري الذي يوصف اعتباطا ودون مسوغات جمالية ومعرفية معقولة بقصيدة نثر تبدو تجربة مبارك وساط استثناء يعد بالقيمة والقدرة على إمتاع القارئ وتحفيزه في الآن نفسه على نبذ الجاهزية في سياق التلقي.