’’ عمر وماما الغولة ’’
الى أغلى الرفاق
من مذكرات عبد الحق القاص
ليست من عادتي أن أكتب في ذكرى رفاق فقدناهم في الطريق الشائك الذي سطره العديد من شهدائنا البررة بدمائهم الزكية. فبالرغم من غيابهم الجسدي لازال حضورهم الفكري والتاريخي يقوي قضيتنا، فهو يقلق البعض، ويحرج البعض الآخر ممن لازال يملك شيئا من الحياء والضمير.
ولتبديد ورفع كل لبس، وشهادة للتاريخ ومن أجل الإنصاف، أجدني مضطرا للنبش في الذاكرة واستحضار القليل من ذاك التاريخ. فبعد قراءتي للمرة الثانية “طائر الفنيق” للأخ والرفيق أحمد بنجلون، مباشرة بعد ذكرى 46 لاستشهاد القائد الأممي الفذ عمر بنجلون. بعد الاطلاع على “ومضات من مسار القائد السياسي والمحامي والصحفي” تفجرت بداخلي مرارة فقدان الرفاق، وتذكرت مع “ناس الغيوان” مقولتهم الشهيرة “حنا قلال و ما فينا ما يتقسم”.
كان آخر لقاء مع الرفيق الأعز أحمد بنجلون بمنزله. لقاءا، أصر، رغم وضعه الصحي، على أن يطول ويدوم. لقد حاولت رفيقة دربه الأخت فريدة، التي أحييها وأشد بحرارة على يدها بهذه المناسبة وأحيي صبرها وصمودها إلى جانب الفقيد طيلة حياته. وخاصة إبان فترة مرضه، سواء بمونبوليي، بالديار الفرنسية أو بالرباط في المرحلة الأخيرة من حياته، فلها كل التقدير. قلت لقد حاولت أن تنبه الرفيق أحمد للوقت الذي تأخر، فالساعة كانت تشير إلى حوالي الثامنة مساءا، وهو يحتاج إلى الراحة حتى يستجمع قواه من جديد، قابل تنبيهها بالرفض. التزمتُ الصمت، وبعد ساعة من الحوار، استأذنته بالانصراف، لكنه أصر على متابعة الحديث، غير مكترث لصحته. غادرت المنزل في وقت متأخر من الليل، كان لدي إحساس بأنها لحظات الوداع الأخيرة، هكذا خمنت، وربما كان نفس الشعور عند أخي ورفيقي الفقيد أحمد بنجلون.
بعد هذا الوداع الأخير، وجدت نفسي أمشي صوب “المدينة” بطريق زعير، في الظلام، دون أن أفكر في طلب سيارة أجرة. لا أدري هل كان ذلك اختيارا، أم هو نتاج وقع تلك الجلسة التي، تمنيت ألا تنتهي، نظرا لما تخللها من بوح صادق، قلما تجده في هذه الحياة. قطعت المسافة والدمع ينهمر بلا استئذان، وأنا أعيد شريط تلك الجلسة الأخيرة.
وقفنا في لقاء الوداع هذا، على محطة سيتطرق لها الرفيق أحمد في كتابه/الشهادة (ص:169).
وهي المحطة التي ساهمتُ فيها مع رفاق لي ونحن في قمة عطائنا كشباب، ويتعلق الموضوع بالمسرحية:
“عمر وماما غولة”
هذه المسرحية، الرسالة/الرد على الرسالة الملغومة التي وجهت للشهيد ونجي منها بأعجوبة، وهي كذلك رسالة /رد على كل من شارك في اغتيال عمر بنجلون من قريب أو بعيد.
في بداية سبعينيات القرن الماضي، أسست شبيبة الإتحاد بيعقوب المنصور فرقة مسرحية حملت إسم”فرقة المسرح الشعبي” هذه الفرقة التي سيكون لها الفضل في استقطاب خيرة الشباب مما أدى إلى توسيع رقعة تنظيم الشبيبة ليشمل جميع أنحاء الحي في تلك الفترة.
وقد كتب أخي ورفيقي إبراهيم ازنيدر، موازة مع حدث اغتيال الشهيد عمر بن جلون، مسرحية “عمر وماما غولة”، كان الإخراج جماعيا. وكان التدريب بمقر الحزب التاريخي، يعقوب المنصور السفلي، إذ تم التنسيق مع الكتابة الإقليمية للرباط في شخص المرحوم العربي الشتوكي، لتحضير المسرحية والمساهمة بها في الذكرى الثانية لاغتيال الشهيد عمر بنجلون، سنة 1977، والتي أقيمت بسينما الملكي بالرباط.
أذكر كذلك أن المكتب الوطني للشبيبة الإتحادية، آنذاك، قد حاول حشر أنفه ومراقبة هذه التحضيرات. الشيء الذي تم رفضه لاعتبار أن الفرقة المسرحية مستقلة وترفض حضور أي أجنبي عليها، أثناء التدريب .
المسرحية عبارة عن لوحات اعتمدت على الطريقة البريختية في الإخراج، أي تكسير الجدار الرابع، تحاول أن تلمس التاريخ النضالي للفقيد، تجرم عملية الاغتيال، وتتساءل عمن كان وراءها وعمن يستطيع لعب دور عمر بعد اغتياله…
“شكون فيكم يقدر يقوم بالدور ديال عمر”
المفتاح والعقدة.. يبدأ العرض بهذا السؤال. فبعد أن يصعد الراوي، وهو كاتب المسرحية ومقدمها في نفس الآن. يخبر الجمهور بالفاجعة/الاغتيال. يطلب من الجمهور أن يمد يد المساعدة ويشارك في بناء هذا العرض. وهكذا يمهد الطريق ليسأل إذا ما كان هناك من يستطيع أن يؤدي دور عمر!… يتوجه بسؤاله إلى الصف الأمامي بالقاعة، حيث يجلس المكتب السياسي للحزب. يسأل واحدا تلو الآخر. “أنت يا الأخ واش تقدر تلعب الدور اللي كان تيلعبو عمر؟”، ويبق لحظة في انتظار الجواب…، يسود الهدوء القاعة وتمتلك الدهشة أعضاء المكتب السياسي، قبل أن يمر إلى الموالي، حتى تتمة صف المكتب السياسي (فالرسالة واضحة)، ثم يصعد الممثلون، بعد ذلك، من القاعة إلى الخشبة، وتنطلق المسرحية، ويقوم الجاني باغتيال عمر.
ومع تسلسل أحداث العرض، يقف وسط الجمهور، ممثل آخر ليلقي كلمة يندد فيها بزيارة محمد أنور السادات للقدس. يستحضر فيها مواقف الشهيد من القضية الفلسطينية. تفاعل الحضور بشكل مثير مع هذه المسرحية التي ستنتهي بتجسيد جنازة الشهيد فوق الخشبة. وتعمدنا أن يكون القاتل ضمن من حملوا النعش، لأن الحقيقة الكاملة كانت غائبة ولازالت ليومنا هذا. أصر بعض أعضاء اللجنة الإدارية للحزب على ان تقوم الفرقة بعرضها مرة أخرى، وفي مساء نفس اليوم، بمدينة الدار البيضاء. لبت الفرقة الاقتراح، بلا تردد لأنها اعتبرت هذا العمل المسرحي واجبا نضاليا.
أسئلة تفرض نفسها
- لماذا ثم طمس هذا الحدث طيلة هده المدة، رغم أهميته؟ مع العلم أنه تم تسجيله. وما مصير ذلك التسجيل؟
- كيف استطاعت الجزيرة عبر شريطها “عمر. شهيد الرأي” أن تبدأ الشريط بنفس الطريقة !!! المسرحية، وطرح نفس السؤال: “من منكم يستطيع أن يلعب دور عمر”؟